بقلم: عبد الله السناوي
كتل النيران المتدافعة والتدخلات الجارية والمحتملة فى الأزمة الليبية تنذر بتحولات جوهرية فى طبيعتها ومداها.
أخطر الأسئلة الآن: هل نحن بصدد «تدويل مسلح» للأزمة يقارب ما حدث فى السيناريو السورى.. أو «سورنة ليبيا» بتعبير وزير الخارجية الفرنسى «جان إيف لودريان»؟
التوصيف الدبلوماسى الفرنسى وجد سنده فيما التقطته الأقمار الاصطناعية الأمريكية من صور لطائرات روسية من الجيل الرابع للمقاتلات النفاثة فى مطار «الجفرة» الخاضع لسيطرة الجيش الوطنى الليبى، الذى يقوده المشير «خليفة حفتر».
رغم نفى المتحدث باسم «حفتر» فإن الرواية الأمريكية على لسان قائد قواتها فى إفريقيا «أفريكوم» تؤشر على تطور نوعى فى الاصطفافات العسكرية والدبلوماسية بالأزمة الليبية.
لم تكن مصادفة أن يأخذ قائد «أفريكوم»؛ حيث التمركزات العسكرية الأمريكية فى القارة وعلى تخومها بالقرب من ميادين المواجهات العسكرية الليبية، زمام التعبير عن القلق الأمريكى قبل المتحدثين الدبلوماسيين.
كانت تلك رسالة مقصودة بخطورة أى تمركزات عسكرية روسية دائمة فى ليبيا على أمن الجناح الجنوبى من أوروبا.
رسائل الجنرالات الأمريكيين وافقت تحولات السياسات فى الموقف من الأزمة الليبية؛ حيث أخذت تنحو بالتدريج إلى الاقتراب من حكومة «الوفاق الوطنى» فى طرابلس برئاسة «فايز السراج»، بالاتصالات والتفاهمات دون أن تصل إلى أى تحالفات معلنة.
ما حدود المستجدات الأمريكية.. وإلى أى حد وبأية طريقة يمكن أن تتورط فى المستنقع الليبى؟
لم تكن الإدارة الأمريكية الحالية متحمسة لمغامرات الرئيس التركى «رجب طيب أردوغان» فى ليبيا، لكنها قد تجد نفسها فى خندق قريب منه بالنظر إلى خشيتها من تمدد الدور الروسى فى ليبيا على نسق ما حدث فى سوريا.
كان لافتا إلى أن اللاعبين الروسى والأمريكى استخدما العبارات الدبلوماسية نفسها فى التعبير عن موقفيهما من مستقبل الأزمة الليبية، فلا حل عسكريا، وأنه لا بد من وقف إطلاق النيران والعودة مجددا إلى موائد التفاوض تحت راية الأمم المتحدة ووفق مقررات مؤتمر «برلين».
العبارات الدبلوماسية تكررت بحذافيرها من كل الأطراف المتداخلة فى الأزمة الليبية، الاتحاد الأوروبى ودول الجوار والأمم المتحدة.
هكذا بدت أحاديث السلاح عند درجة الغليان وأحاديث التسوية فى ثلاجة انتظار نتائج التطورات العسكرية فى ميادين القتال.
تبدت ازدواجية المعايير الأمريكية فى النظر إلى ما يتدفق من أسلحة ومعدات ومرتزقة إلى ميادين القتال الليبية، أدانت ما هو منسوب إلى روسيا وغضت الطرف عما هو ثابت من تدخل تركى عسكرى مباشر وقدر السلاح المتقدم الذى أمدت به حكومة طرابلس وحجم المرتزقة الذين دفعت بهم من سوريا إلى ليبيا، نصفهم على الأقل من الجهاديين الأكثر تطرفا وتشددا وإرهابا.
أسوأ ما يحدث استدعاء مرتزقة من سوريا المنهكة للحرب فى ليبيا باسم الدفاع عن «الديمقراطية والسلام» وانتهاك المصطلحات والمعانى، كما لم يحدث فى أية أزمة دولية أخرى مثل إسباغ صفة حكومة «الوفاق الوطنى» المعترف بها دوليا على حكومة «فايز السراج» فيما أساس شرعيتها اتفاق «الصخيرات» تقوض بالكامل.
باسم «إعادة التوازن العسكرى» إلى المسرح الليبى توسعت تركيا فى تدخلها العسكرى حتى لا تسقط طرابلس تحت يد «حفتر».
الاعتبارات الاستراتيجية غلبت أية اعتبارات تركية أخرى فى وقت يتعرض اقتصادها لهزات حادة تحت ضربات جائحة «كورونا» خشية أن يتقوض «مشروع أردوغان ــ العثمانية الجديدة» بالكامل، فيما لو سقط حلفاؤه فى طرابلس، كما خسارة الصراع المحتدم على الغاز فى شرق المتوسط مع مصر واليونان وقبرص وفرنسا.
المستجد التركى بالمعدات والسلاح والمرتزقة أعطى قوات «الوفاق» المترنحة دفعة لم تكن متصورة فتمكنت فى وقت وجيز من إحداث اختراقات عسكرية، أهمها من الناحية الاستراتيجية السيطرة على قاعدة «الوطية» الجوية، غير أن الجيش الوطنى تمكن من التماسك بأسرع من أى توقع بفضل امدادات عسكرية عاجلة روسية وغير روسية.
هناك احتمالان متعاكسان لتطور العمليات الميدانية فى المدى المنظور.
الأول، أن ينجح الجيش الوطنى الليبى فى حسم معركة مصراتة، التى تعتبر شريان الإمداد التركى بالسلاح والمسلحين لميليشيات طرابلس.
إذا ما تحقق هذا الاحتمال يحسم الصراع بالضربة القاضية، وهو ما لا يمكن أن تقبل به بسهولة أطراف دولية نافذة لها مصالح استراتيجية واقتصادية فى ليبيا وأولها الولايات المتحدة.
والثانى، أن تتقدم قوات «الوفاق» شرقا نحو الهلال النفطى، وهذه نقطة فارقة بحسابات الأطماع التركية فى الثروة النفطية الليبية، ومما له دلالة بالتوقيت ما أعلنته من أنها بصدد التنقيب عن الغاز قبالة السواحل الليبية فى غضون ثلاثة شهور وفق الاتفاقية الموقعة مع حكومة طرابلس.
إذا ما تحقق هذا الاحتمال فإن أطرافا أخرى نافذة سوف تجد نفسها أكثر تورطا فى المستنقع الليبى، لن تسمح أبدا بمثل هذه النهاية.
بالنسبة لبلد مثل مصر لا يمكن أن تتقبل أى تمدد عسكرى تركى بالقرب من حدودها، أو أن تتمركز مجددا جماعات إرهابية وداعشية على مرمى البصر.
لقد عانت بقسوة من الفوضى المسلحة، التى أعقبت سقوط نظام العقيد «معمر القذافى»، بقدر ما تسرب عبر حدودها الممتدة التى تصل إلى نحو (1200) كيلومتر، من أسلحة ومعدات ومسلحين ارتكبوا أعمالا إرهابية فى سيناء والواحات والداخل المصرى.
الاحتمالان المتعاكسان لا يلخصان تعقيدات الموقف، لكنهما يعبران عن حدة الصراع وقدر المخاطر الماثلة.
هناك احتمال لا يمكن استبعاده بين ما هو عسكرى وما هو سياسى أن يحدث تفاهم روسى تركى على نسق مسار «آستانا» وتفاهمات «سوتشى» لتقاسم النفوذ مدعوما من الولايات المتحدة التى لا تريد انفرادا روسيا بالمشهد الليبى.
الاحتمال وارد، لكنه ليس قدرا بقدر ما نتنبه لمستجدات النيران فى الازمة الليبية تأكيدا على الحضور المصرى والعربى بالوسائل المشروعة حتى يكون ممكنا أن يمسك الليبيون وحدهم بمصيرهم، يصنعونه بإرادتهم الحرة ويبنون مؤسساتهم الحديثة بغطاء مدنى سياسى لا قبلى عشائرى يفوض الحكم، هذه مسألة مشروع يحتاجه الجيش الليبى حتى يمكنه حسم سؤال المستقبل.