بقلم: عبد الله السناوي
فى أزمات الشرعية المستحكمة لا يمكن استبعاد الصدام مهما تأجل.
هذه حقيقة أكدت نفسها بصور مختلفة فى موجتى الحراك العربى عامى (2011) و(2019).
تختلف الأسباب والدوافع والظروف والملابسات بين حراك وآخر لكنها تندرج جميعا تحت عنوان: أزمات الشرعية.
وقد كان الحراك الجزائرى تعبيرا عن أزمة نظام حكم تكلست مفاصله السياسية والاجتماعية وضرب الفساد المؤسسى والهدر الاقتصادى بنيته على مدى عشرين عاما من حكم الرئيس السابق «عبدالعزيز بوتفليقة».
فى البداية تلخصت مطالب الحراك فى منع الرئيس المريض، الذى لا تساعده أحواله الصحية المتدهورة على إدارة أمور الدولة تاركا سلطاته لما أطلق عليها «حكم العصابة»، من تمديد حكمه لعهدة رئاسية خامسة.
لم تهدأ الشوارع الغاضبة بعد إطاحة «بوتفليقة» خشية إعادة إنتاج نظامه بوجوه جديدة.
بقوة الغضب ارتفعت أسقف المطالب العامة من محاكمة الرءوس الكبيرة التى تورطت فى الفساد واسترداد الأموال المنهوبة إلى توسيع الحريات والحقوق العامة وتغيير طبيعة النظام كله.
بقدر غياب أى ثقة فى النظام الذى تداعت قوائمه لم يعد يرضى الغاضبون أقل من إزاحة رموزه عن مقدمة المشهد السياسى، وهو ما لم يتحقق حتى الآن رغم الإلحاح والضغط المتواصل منذ اندلاع شرارة الحراك فى (22) فبراير (2019).
رغم النفس الطويل للحراك الجزائرى وسلميته شبه المثالية بالقياس على ما حدث فى دول عربية أخرى شهدت احتجاجات مماثلة فى توقيت مقارب لم يتمكن من التوصل إلى أى آليات متفق عليها وموثوق فيها مع قيادة الجيش لإجراء انتخابات رئاسية تتمتع بشرعية القبول العام فى (12) ديسمبر المقبل.
عند هذه النقطة تلقى أزمة الشرعية ظلالا كثيفة على المستقبل الجزائرى.
إذا ما تأجلت الانتخابات تحت ضغط تصاعد الاحتجاجات والمقاطعة الواسعة المتوقعة فهذه مشكلة عميقة فى بلد أخفق مرتين فى استدعاء الهيئة الناخبة للرئاسيات بعد إطاحة الرئيس السابق.
وإذا ما أجريت بقوة الإدارة فإن نتائجها لا توفر للرئيس الجديد أى حد أدنى من الشرعية لممارسة السلطة.
إذا لم تكن القنوات سالكة أمام التغيير الضرورى فى بنية نظم الحكم فإن الانفجار محتم والصدام مسألة وقت.
هذا أخطر ما يعترض الجزائر الآن.
على عكس التجربة السودانية، التى نشب حراكها قبل الجزائر بنحو شهرين، لم تكن هناك قيادة مفوضة تتحدث باسم الجماهير الغاضبة.
كانت تلك نقطة قوة من حيث القدرة على الحشد العام دون تنازع على القيادة ونقطة ضعف من حيث غياب أى مقدرة على إدارة الموقف وفق مقتضيات طوارئ الحوادث.
المشكلة نفسها يعانى منها الحراكان اللبنانى والعراقى.
وعلى عكس التجارب الثلاث السودانية واللبنانية والعراقية تسيد الدافع السياسى المباشر المشهد الجزائرى لا الدافع الاقتصادى المباشر، غير أن الاحتجاجات باختلاف أسبابها تداخلت فيها بعد وقت قصير الاعتبارات السياسية والاقتصادية والاستراتيجية معا.
فى مثل هذه الأحوال يصعب استبعاد التوظيف السياسى والتدخل الإقليمى والدولى فى مجرى المطالب المشروعة.
لم يكن هناك تدخل ملموس إقليمى ودولى فى الحراك الجزائرى، وربما يفسر ذلك إلى حد ما قدر السلمية فيه.
وربما يعود ذلك إلى الخبرة الجزائرية المريرة فى العشرية السوداء، التى خيمت ظلالها الكئيبة على كل بيت فى تسعينيات القرن الماضى.
بانقلاب عسكرى قاده اللواء «خالد نزار«، الملاحق الآن قانونيا على خلفية إفساد الحياة العامة، أطيح بانتخابات برلمانية إثر جولتها الأولى التى كسبتها جبهة الإنقاذ الإسلامية على خلفية تصريحات متفلتة لبعض قياداتها، كأنها توشك أن تصادر الحريات العامة وفق خياراتها الأيديولوجية الضيقة، لا ممارسة الحكم وفق قواعد ديمقراطية حديثة.
أعقبت الانقلاب حرب أهلية توحش فيها الإرهاب والترويع وأغلقت البيوت على أصحابها بالجنازير خشية التقتيل.
لا أحد فى الجزائر يريد العودة إلى تلك الأيام السوداء، غير أن لكل طلب أصولا واشتراطات وإلا أفلتت الصراعات من عقالها.
أهم الأصول والاشتراطات اتساع التفاهمات العامة على قواعد اللعبة السياسية، وهو ما لم يتحقق حتى الآن وينذر بعواقب إذا لم يتم تدارك الأسباب.
يكاد يتلخص مأزق اللحظة فيما إذا كانت هناك ضرورة محتمة لمرحلة انتقالية تمهد لتغيير جوهرى فى طبيعة نظام الحكم وتوجهاته الأساسية وفق القواعد الحديثة، بمعنى تأسيس شرعية جديدة، أم أن الأكثر أمنا وسلاما للبلد الذهاب إلى انتخابات رئاسية جديدة تحت إشراف فعلى من قيادة الجيش ورمزى من رئيس مؤقت وحكومة تنتسب وجوهها إلى النظام السابق.
الحراك بتوجهاته تبنى الخيار الانتقالى والجيش بخلفيته تمسك بالإجراء الانتخابى.
بين الخيارين المتناقضين تتبدى الآن أشباح الصدام.
كلما اقتربت مواعيد الانتخابات الرئاسية المقررة ترتفع وتيرة التوترات فى البنية السياسية.
الحراك يستعيد زخم بداياته، ولم يعد قاصرا على يومى الثلاثاء والجمعة من كل أسبوع كطقس احتجاجى ثابت.
وقيادة الجيش تؤكد إصرارها على إجراء الانتخابات فى موعدها أيا كانت قوة الاحتجاجات الداعية إلى مقاطعتها.
بين التوجهين المتناقضين بدأت قطاعات يعتد بها من النخب السياسية والأكاديمية تميل إلى الإجراء الانتخابى، رغم التحفظ عليه، خشية أن تدخل البلاد فى فراغ دستورى طويل ومكلف.
هناك خشية كامنة فى المساجلات السياسية الجارية أن شيئا من الفوضى قد يضرب البلاد سواء أجريت الانتخابات، أو لم تجر، لفقدان الإجراء نفسه شرعيته وغياب أى تفاهمات لما بعده.
فى المشهد السياسى المضطرب بدت الحملات الانتخابية للمرشحين الرئاسيين الخمسة شبه معطلة بالنظر إلى المقاطعة الشعبية الواسعة التى ترافقها عصبية زائدة وصلت إلى حد الاعتداء على هؤلاء المرشحين بالإهانة البالغة.
السيناريوهات كلها مفتوحة على أزمات الشرعية التى سوف تتمدد بصيغ جديدة فيما بعد الموعد المحدد لإجراء الانتخابات الرئاسية.
قد تجرى حملات اعتقالات واسعة للنشطاء السياسيين لوقف زخم الحراك وشل قدرته على منع الانتخابات.
ويحتمل أن تحدث صدامات بين المتظاهرين وقوات الأمن تفقد الحراك سلميته ويسقط من صفوفه ضحايا.
نسب المشاركة ليست محض أرقام بقدر ما سوف تكون مسألة شرعية.
إذا ما كانت هناك مقاطعة كبيرة للانتخابات الرئاسية فإنه لا شرعية لها ولا يترتب عليها أى استقرار يعول عليه.
ثم إن الحراك لن تتوقف فاعلياته مع قدوم رئيس جديد مطعون على شرعيته ومتهم مسبقا بأنه ألعوبة بيد من يمسك بمقاليد السلطة الحقيقية، التى دأبت على مدى عقود فى اختيار الرئاسات وعزلها.
هذه النقطة على وجه الخصوص عقدة الموقف كله.
منذ انقلاب (19) يونيو (1965) بقيادة وزير الدفاع «هوارى بومدين» على «أحمد بن بيللا» أول رئيس للجزائر المستقلة ترسخت أدوار الجنرالات، التى أخذت تتسع بالوقت إلى حدود المجىء وعزل الرئاسات واحدة تلو أخرى.
جوهر طلب الحراك الجزائرى أن تتوقف تلك اللعبة.
هذا طلب مشروع بأى قياس ديمقراطى وحديث لكن تكاليف الوصول إليه باهظة.