بقلم: عبد الله السناوي
التصعيد العسكرى والسياسى فى أية أزمة لا يرادف بالضرورة شعورا فائضا بالقوة، أو تخطيطا استراتيجيا محكما بقدر ما قد يعكس أحيانا هروبا للأمام من أزمات داخلية مستحكمة.
ما يحدث الآن من تصعيد وتغول على القضية الفلسطينية، ممتدا إلى ما حولها، انعكاس مباشر لأزمة رجلين تستنزف الأزمات الداخلية أعصابهما وتهددهما فى مصيرهما.
لا يمكن قراءة دوافع وتداعيات التصعيد السياسى والعسكرى الحالى الآن على الساحة الفلسطينية وما حولها بعيدا عن أزمتى الرئيس الأمريكى «دونالد ترامب» ورئيس حكومة تصريف الأعمال الإسرائيلية «بنيامين نتنياهو» المتفاقمتين.
لا يوجد تفسير آخر متماسك ومقنع من حيث التوقيت لما أقدمت عليه إدارة «ترامب» من اعتراف بالمستوطنات الإسرائيلية فى الضفة الغربية المحتلة، أو من أنها لا تنتهك القانون الدولى، كما صرح وزير خارجيتها «مايك بومبيو»!
التصريح بذاته يدخل فى سياق قرارات مماثلة تستخف بالقانون الدولى وتقوض أى حديث عن أية تسوية سياسية محتملة مثل الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل ونقل السفارة الأمريكية إليها، كما الاعتراف بضم الجولان السورى المحتل للدولة العبرية.
التصريح بأثره لا تترتب عليه أية شرعية دولية، ولا أية شرعية من أى نوع باستثناء شرعية القوة وفرض الأمر الواقع.
مجلس الأمن كله باستثناء الولايات المتحدة رفض شرعنة الاستيطان، لكنه فشل فى استصدار بيان يدين ما أقدمت عليه الإدارة الأمريكية.
بل إن دولة مثل «لوكسمبورج» دعت الاتحاد الأوروبى إلى الاعتراف بالدولة الفلسطينية ردا على الاعتراف الأمريكى بالمستوطنات.
خطورة هذا الاعتراف أنه يكرس ما يسميه الرئيس الأمريكى «سلام القوة»، بغض النظر عن القوانين الدولية وإرادة المجتمع الدولى.
وهذا مشروع صدامات ومواجهات واسعة لا مفر من حدوثها، فلكل فعل رد فعل يساويه فى القوة ويضاده فى الاتجاه، كما تقول قوانين الفيزياء.
من تبعات الاعتراف الأمريكى بالمستوطنات الإسرائيلية تقويض أى رهان على أى أدوار وساطة يمكن أن تضطلع بها الإدارة الأمريكية وموت «صفقة القرن» بالسكتة التاريخية.
دواعى إدارة «ترامب» للإقدام الآن على هذه الخطوة تعود بالمقام الأول إلى محاولة استرضاء قاعدته الانتخابية من الإنجيليين المتعصبين، الأكثر يمينية من اليمين الإسرائيلى نفسه، فيما يتعرض لأزمة حادة قد تعرضه للعزل من منصبه على خلفية «فضيحة أوكرانيا»؛ حيث استخدم صلاحيات منصبه لمصالح شخصية انتخابية.
جلسات مجلس النواب المطولة، المنقولة على الهواء مباشرة إلى كل بيت أمريكى، التى تستجوب شهود الواقعة تكاد أن تكون قد استنزفت أعصاب الرئيس الأمريكى بالكامل، الذى أفلتت عباراته وتعبيراته عن كل قيد مصورا ما يحدث بـ«المؤامرة» لمحاولة «الانقلاب عليه».
نفس المقاربة احتذاها رئيس حكومة تصريف الأعمال فى إسرائيل، الذى تلاحقه لائحة اتهام رسمية بالفساد والاحتيال وخيانة الأمانة من المدعى العام الإسرائيلى، فما يحدث معه محاولة «انقلاب» كما قال بالحرف!
من دواعيه للهروب إلى الأمام بالتصعيد العسكرى فى غزة وما حولها فى سوريا خشيته من المحاكمة الجنائية المحتملة.
بدا الاعتراف الأمريكى بشرعية المستوطنات كهدية جديدة لـ«نتنياهو» فى وقت حرج، تدعم مركزه فى أى انتخابات ثالثة للكنيست بعد أن فشلت الأحزاب والقوائم الإسرائيلية لمرتين فى تشكيل حكومة جديدة.
لا شىء بالمجان فى مثل هذا النوع من الهدايا.
«ترامب» ينتظر بالمقابل دعما مماثلا من اللوبيات اليهودية داخل الكونجرس باعتباره أكثر الرؤساء الأمريكيين دعما لإسرائيل فى التاريخ.
أوضاع التأزم رتبت سجالات داخلية فى إسرائيل شككت فى دوافع «نتنياهو» فى التصعيد العسكرى مع غزة وجدوى الطريقة التى يدير بها ملفات الأمن الإسرائيلى.
بترتيب الأولويات الأمنية فإن غزة أولا والضفة الغربية ثانيا ولبنان ثالثا وسوريا رابعا وإيران خامسا بحسب محلل عسكرى إسرائيلى.
المشكلة الأمنية فى غزة، بحسب أغلب المحللين العسكريين الإسرائيليين، لم تعد تتلخص فى تنظيم واحد هو «حماس»، فقد تمكن تنظيم أصغر «الجهاد الإسلامى» بالصواريخ التى أطلقها ردا على استهداف حياة اثنين من قياداته من إحداث شلل فى نصف إسرائيل، أو أن يجعلها «تقف على رجل واحدة».
هناك تخوف من حرب رابعة فى غزة، التى شهدت ثلاث عمليات عسكرية كبيرة أعوام (2008) و(2012) و(2014) بلا استراتيجية واضحة وبلا قدرة على ردع المقاومة، أو التصدى لصواريخها التى تطورت بصورة لافتة فى الآونة الأخيرة.
هناك صدمة فى إسرائيل من عجز نظامها الدفاعى أمام الصواريخ الفلسطينية، ومن عواقب العودة إلى الاغتيالات السياسية بعد خمس سنوات من توقفها، ومن حجم الأضرار والخسائر المادية والمالية التى لحقت بها فى الأزمة الأخيرة؛ حيث وصلت إلى نحو مائة مليون شيكل يوميا.
الاستخلاصات الإسرائيلية ذهبت فيما يشبه الإجماع إلى أن التهدئة يمكن تقويضها بأى وقت من أى تنظيم فلسطينى بغض النظر عن موقف «حماس».
الأسوأ أن الوضع فى الضفة الغربية قابل للاشتعال والانفجار فى وجه إسرائيل التى لا تتوقف عن مداهمات البيوت واعتقال النشطاء الفلسطينيين.
جاءت الغارات الواسعة على دمشق لتعمق الشعور بالأزمة داخل إسرائيل.
ترددت ذريعتان للغارات الأخيرة ــ الرد على إطلاق صواريخ من سوريا باتجاه إسرائيل، واستهداف تمركزات عسكرية إيرانية بالقرب من حدود الدولة العبرية.
رغم ما تؤكد عليه إسرائيل باستمرار من استهداف المواقع الإيرانية، إلا أنها تؤكد مرة بعد أخرى على لسان كبار جنرالاتها أنها لا تسعى لأى صدام واسع مع إيران.
قواعد الاشتباك الإسرائيلية تلخصها فكرة الردع دون التورط، وهذه لعبة لا تملك حساباتها وحدها.
هناك من يخشى فى إسرائيل أن تفلت اللعبة فتجد نفسها تحت قصف آلاف الصواريخ من منصات إقليمية متعددة، بالإضافة إلى غزة، وهو ما لا طاقة لها به بالنظر إلى الانكشاف الذى تبدى فى مواجهة محدودة مع تنظيم فلسطينى واحد داخل قطاع محاصر.
بأية قراءة موضوعية لحصاد التصعيد العسكرى والسياسى الحالى فإن إسرائيل ليست قوية إلى حد الافتراء ونحن لسنا ضعفاء إلى حد الخنوع.