بقلم: عبد الله السناوي
فى ذروة الغضب الفلسطينى على إعلان ما تعرف إعلاميا بـ«صفقة القرن» تبدت نزعة قوية تبحث عن طريق جديد، بعد أن أغلقت كل المنافذ واستهلكت كل مفردات الخطاب القديم وأهدرت أى حقوق سياسية وقانونية وإنسانية.
كانت أهم إشارة على مثل هذا النزوع اللهجة السياسية التى تحدث بها الرئيس الفلسطينى «محمود عباس» بذات ليلة الإعلان عن «صفقة القرن» فى البيت الأبيض.
كانت لهجته أكثر تشددا مما هو معتاد ومألوف، لوح بالتنصل من اتفاقية «أوسلو»، التى كان هو عرابها، بعد أن جرى تمزيقها أمريكيا وإسرائيليا فى «صفقة القرن»، دون أن يكون واضحا إذا ما كان سوف يلغيها أم لا، يحل السلطة التى يترأسها أم لا، يوقف التعاون الأمنى مع سلطات الاحتلال الإسرائيلى كاملا أم لا.
لم تكن هناك إجابة على أى أسئلة معلقة، كأنه لا يدرى أين يضع قدميه وهو يوشك أن يدخل حقل ألغام بتبنى خيارات غير خياراته التى ارتبط بها على مدى عقود طويلة.
أشار إلى عزمه إجراء انتخابات نيابية ورئاسية جديدة مشترطا موافقة إسرائيل أن تشمل فلسطينيى القدس الشرقية، وهو شرط شبه مستحيل فى الأوضاع الحالية، وأرسل وفدا من فتح إلى غزة لمد جسور الحوار مجددا مع حماس لإنهاء الانقسام، دون أن يتجاوز الكلام حدوده المعتادة.
مازج الخطاب السياسى الفلسطينى عند رأس السلطة بين قدر كبير من التشدد اللفظى والاعتدال الفعلى، لا مضى فى تشدده إلى تغيير قواعد اللعبة السياسية ولا أفصح عن اعتداله الذى ينزع عنه شرعيته.
بذات النهج ألقى خطابا آخر فى مقر الجامعة العربية أدان «صفقة القرن»، وكان ذلك تعبيرا عن الرأى العام الفلسطينى بكل فصائله ومكوناته فى الضفة الغربية وغزة وخلف الجدار والشتات، لكنه لم يتجاوز السقف السياسى لخياراته ومواقفه الموصوفة بالاعتدال.
طلب دعما سياسيا عربيا لمنع تصفية القضية الفلسطينية دون أن يتطرق إلى حجم ما يطلبه، وكان ذلك تعبيرا عن الأحوال التى بات عليها العالم العربى، فأقصى ما يطلب منه أن «يفرمل» التطبيع المجانى مع إسرائيل.
كانت معضلته أنه يعرف بوضوح ماذا يرفض ويدعو الآخرين إلى رفضه دون أن يكون واضحا بالقدر نفسه فيما يريد ويدعو الآخرين إلى تبنيه.
فى مساحة الرفض حصد دعما سياسيا عربيا وإسلاميا وإفريقيا وأوروبيا إلى حد ما، تقوضت «صفقة القرن» إلا أن تكون سلاما بالقوة بلا شرعية قانونية وأخلاقية، بلا شريك فلسطينى أو غطاء دولى.
تلك درجة من النجاح السياسى والدبلوماسى صاحب الفضل الرئيسى فيها الشعب الفلسطينى بقدر غضبه وتماسكه ورفضه للاستخفاف بقضيته وحقوقه.
يحسب لـ«محمود عباس» تصريحه الأكثر دويا: «لن أختتم حياتى بخيانة»، غير أنه لم يكن كافيا لتأسيس مرحلة فلسطينية جديدة ترتقى لمستوى التحديات الوجودية بإنهاء الانقسام وإعادة بناء منظمة التحرير الفلسطينية ممثلا شرعيا ووحيدا للشعب الفلسطينى وفق برنامج وطنى يعكس حالة إجماع بقدر ما هو ممكن.
عندما ذهب إلى نيويورك لإلقاء خطاب أمام مجلس الأمن الدولى فى خطوة لافتة لمستوى التصعيد الدبلوماسى الفلسطينى ضد «صفقة القرن» وصلت مزاوجاته بين التشدد والاعتدال لمستوى غير مسبوق فى لغتها ورسائلها، إدانة مطلقة لـ«صفقة القرن» التى تلغى الشرعية الدولية ولا تؤسس لأى سلام واستقرار وعودة بلا تحفظ إلى الخطاب القديم، تأكيدا على الالتزام باتفاقية «أوسلو»، التى لم يعد لها وجود بقدر الانتهاكات الإسرائيلية اليومية لنصوصها والتزاماتها ضما وتوسعا واستيطانا.
أراد أن يؤكد للعالم أمام مجلس الأمن أنه «رجل سلام» يبحث عن شريك إسرائيلى فلا يجده منذ رحيل «إسحاق رابين»، رئيس الوزراء الأسبق، وأن المشكلة ليست فيه فلا فلسطينى غيره قادر على المضى فى التسوية إلى النهاية شرط أن يحصل على شىء يسوغ توقيعه أكبر من الفتات المعروض عليه فى «صفقة القرن».
فى اليوم التالى كان لافتا اللقاء الذى أجراه فى نيويورك مع رئيس الوزراء الإسرائيلى الأسبق «إيهود أولمرت»، الذى أدخل السجن على خلفية قضية فساد، وهو مصير يتهدد رئيس الوزراء الحالى «بنيامين نتنياهو».
كل ما كان يحتاجه «عباس» أن يقول «أولمرت» أمام الكاميرات إنه «الشريك الفلسطينى الوحيد»، والكلام كله أصغر من حجم المحنة الفلسطينية.
بدا خطاب مجلس الأمن أقرب إلى رجاءات بلا أوراق قوة على الطاولة.
غابت عن دعوته لاستدعاء الرباعية الدولية بديلا عن الوساطة الأمريكية الأحادية ما يدعو الأطراف الأخرى للحركة فى الاتجاه الذى يطلبه.
نقطة القوة الوحيدة التى استند إليها قدر التوحد الفلسطينى الجماعى وراء رفض الصفقة، تحدث باسم الغضب فـ«شعبنا لن يركع ولن يستسلم ولا يقبل مقايضة المساعدات الاقتصادية بالحلول السياسية التى هى أساس أى تسوية»، لكنه لم يلمح لأية خطوة فلسطينية محتملة قد تربك مجريات الحوادث والتفاعلات والمصالح والاستراتيجيات كحل السلطة نفسها، أو تغيير أدوارها الوظيفية، كما قال فى خطاب سابق برام الله، أى الوقف الكامل لأى تعاون أمنى يحقق المصالح الإسرائيلية بأقل التكاليف، بل تطوع بإدانة المقاومة المسلحة، وهو حق مشروع بالقانون الدولى للشعوب الرازحة تحت الاحتلال.
دعا إلى احترام الشرعية الدولية وعدم الخروج على قراراتها وإسناد رعاية عملية السلام للرباعية الدولية لا للولايات المتحدة وحدها التى أثبتت انحيازها لإسرائيل وجورها على الفلسطينيين، ولم يكن هناك جديد فيما يطرح ويقول.
استدعيت الأفكار والسياسات والخيارات من الأدراج القديمة.
واستلهمت العبارة الختامية «حذارى أن يقتل الأمل لدى شعبنا الفلسطينى» من خطاب الزعيم الراحل «ياسر عرفات» أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة «لا تسقطوا غصن الزيتون من يدى».
لن يأبه أحد فى العالم بأية عبارات بليغة ما لم تسندها أوراق قوة قادرة على تغيير المعادلات وطرح القضية الفلسطينية على نحوها الصحيح كقضية تحرر وطنى من الاحتلال.
لا أحد تقريبا توقف عند حديث «عباس» عن مد يده لبناء شراكة دولية لتحقيق السلام الشامل والعادل والدائم كـ«خيار استراتيجى»، ولا عند استعداده للبدء فورا فى التفاوض مع الإسرائيليين، كأنه جرى جديد وراء نفس السراب.