توقيت القاهرة المحلي 14:21:48 آخر تحديث
  مصر اليوم -

سؤال عبدالناصر فى ذكراه

  مصر اليوم -

سؤال عبدالناصر فى ذكراه

بقلم : عبد الله السناوي

لا يصح لأحد أن يتحدث عن استنساخ تاريخ، أو استعادة تجربة مر على رحيل زعيمها قرابة نصف قرن، فثورة «يوليو» ولدتها تحديات ما بعد الحرب العالمية الثانية، خاضت معاركها فى موازين قوى دولية مختلفة وتبنت نظامًا سياسيًا تعبويًا كان الخيار المعتمد فى ذلك الوقت داخل حركات التحرير الوطنى فى العالم بأسره.
الاستنساخ فعل انقلاب على جوهر تجربة «يوليو»، وهو وهم كامل إذ يستحيل أن تقيس تحديات عصر على عصر آخر.
أمام عالم جديد يتبقى من التاريخ دروسه الأساسية وأفكاره وقيمه، التى صاغت مشروعات بعينها.
هنا معنى «جمال عبدالناصر» بالنظر إلى المستقبل وتحدياته.
قوة أى مشروع فى قدرته على بناء أفكار وتصورات وسياسات جديدة وفق قيمه الرئيسية بالنقد والتجديد والإضافة، وإلا فإنه يدخل فى موت سريرى لا قومة منه.
أهم قيم مشروع «يوليو»: استقلال القرار الوطنى وانتماء مصر العربى والانفتاح على العالم الثالث وقضاياه والعدالة الاجتماعية ومناهضة التبعية فى السياسة والاقتصاد.
تختلف المقاربات والسياسات باختلاف العصور.
اكتسبت «يوليو» قوتها من تفاعلها مع حقائق عالمها، تحدت وحاربت واجتهدت فى بناء صيغة جديدة لوحدة دول العالم الثالث خارج الخيار، الذى أعقب الحرب العالمية الثانية، فإما أن تكون داخل المعسكر الغربى الرأسمالى أو داخل المعسكر الشرقى الشيوعى.
هكذا ولدت حركة عدم الانحياز.
كل تفاعل يكتسب معناه من خياراته الرئيسية.
هناك فارق بين التفاعل بالعشوائية والتخبط والتفاعل بالخيارات والأهداف.
المشروعات التاريخية الكبرى ليست نصوصًا ولا دراسات أكاديمية، وإنما تفاعل بين الفكر والواقع.
استوعب «عبدالناصر» فى مشروعه أفضل ما كان مطروحًا من خيارات عصره، دمج التحرر الوطنى بالالتزام القومى العربى وبفكرة التغيير الاجتماعى والانحياز للطبقات الفقيرة.
كانت العدالة الاجتماعية صلب قاعدة شرعيته، حيث تعلقت باحتياجات البشر فى الصحة والتعليم والخدمات الأساسية، وقبل ذلك الحق فى العمل وفى عائد الناتج القومى، أن يكون إنسانا كريمًا فى وطنه وآمنًا على مستقبله.
وكانت توجهاته العروبية أفق حركته فى محيطه.
أية توجهات تكتسب قيمتها من مستويات التزامها.
هناك حاجة حقيقية على مستوى الفكر إلى دمج قيم التعددية والديمقراطية السياسية وحقوق الإنسان، لا تحتمل أى التواء فى صلب المشروع الوحدوى العربى.
لا يمكن الحديث عن أى استنساخ لـ«حركة عدم الانحياز»، أو الوحدة العربية على النحو الذى جرى فى الخمسينيات.
الاستلهام غير الاستنساخ.
قيم المشروع وحدها هى التى تربط بين الإرث والمستقبل، حتى يكون ممكنًا أن يقف من جديد على أرض صلبة.
«يوليو» لا تمثل نظرية يقاس على نصوصها بقدر ما تلخص مشروعا يقاس على قيمه.
لسنوات طويلة كان السؤال الرئيسى: «ماذا تبقى من ثورة يوليو؟».
السؤال ــ بذاته ــ يعنى أن نظامها انتهى وتوجهاتها جرى الانقضاض عليها.
مع بداية الانفتاح الاقتصادى عام (١٩٧٤) تردد فى السجال العام سؤال العدالة الاجتماعية وطبيعة الانقلابات الجارية فى البنية الطبقية للمجتمع، التى نظر إليها على نطاق واسع بأنها قطيعة عند الجذور مع شرعية «يوليو».
كانت انتفاضة الخبز فى يناير (١٩٧٧) ذروة الصدام الاجتماعى، فالسياسات تناقضت وتناحرت قبل أن تفترق الطرق إلى الأبد بتوقيع اتفاقيتى «كامب ديفيد» عام (١٩٧٨).
فى بداية عهد «حسنى مبارك» نجح فى وضع كمادات ثلج فوق الرأس المحموم، لكنه مال بالوقت إلى جمود طويل لا صلة له بدعاوى الخمسين سنة ــ حسب التعبير الذى تردد فى مطلع القرن.
فى «يناير» عاد الكلام مجددًا عن «يوليو» من منظور جديد.
هناك من حاول أن يصور «يناير» كأنها ثورة على الستين سنة التى تلت «يوليو»، بزعم ــ لا يمكن إثباته ــ أنها حقبة سياسية متصلة، شرعية واحدة ونظام واحد.
كان ذلك استخفافًا بحقائق التاريخ وهزلًا فى مقام الجد.
بحيثيات جديدة أضيفت سنوات أخرى إلى تلك الدعاوى، من بينها تحميله مسئولية ما أطلق عليه «حكم العسكر».
بحركة الزمن يمكن توقع إضافات جديدة تمنع التعرف على مناطق القوة والضعف وفرص التصحيح والإضافة، كأن يحمل «عبدالناصر» مسئولية «السبعين سنة»، ثم «الثمانين سنة».. وهكذا بلا نهاية دون إدراك لمغبة ذلك على سلامة النظر إلى المستقبل.
من طبائع الأمور أن تختلف التقديرات السياسية بشأن الأحداث الكبرى وأدوار الثورات وإرثها فى حياة الشعوب، غير أنه لا يصح أن تمضى بعض التقديرات إلى حد إهدار الذاكرة الوطنية، وإطلاق أحكام تفتقر إلى أدنى احترام لوقائع التاريخ الثابتة، مستبدة بها ثأرات تاريخ أو أفكار.
بقوة التاريخ المشترك ثورة «يوليو» إرث عام، لا يخص تيارًا سياسيًا دون آخر، ولا جيلًا دون آخر ومن حق جميع الأطراف الوطنية أن تبدى وجهة نظرها فيها، وأن تختلف معها فى موضع أو آخر، لكن بشرط ألا تزيف التاريخ وحقائقه الأساسية، أو أن تقول كلامًا عامًا مرسلًا لا يستند إلى دليل أو منطق.
كأى نظام ثورى فهو فعل استثنائى انتقالى، قاد أوسع عملية تغيير فى البنية الاجتماعية، وأخرج طبقات رئيسية إلى الحياة وتطلعاتها فى التعليم والصحة والرعاية الاجتماعية وحقوق العمل وتكافؤ الفرص، وخاض فى الوقت نفسه معارك مفتوحة فى إقليمه وعالمه، ودخل حروبًا طاحنة فى الصراع على المنطقة.
لا يصح أن نحاسب الثورات بغير قوانين حركتها، أو بأهداف غير التى تبنتها، أو خارج السياق الذى عملت فيه والعصر الذى احتضن تفاعلاتها.
هذه هى الأصول العلمية فى النقاش العام، أما إهدارها واعتبار كل ما جرى بعدها يدخل فى مسئوليتها، ففيه اعتداء صارخ على الحقائق الرئيسية التى ترتبت على الانقلاب عليها، وفيه تحميل للثورة بأكثر مما تطيقه الحقائق، فالثورة انتهت منذ عقود طويلة، وشرعيتها طويت صفحاتها، والنظم التى تلتها انقلبت على خياراتها السياسية والاستراتيجية.
القضية ليست الاتفاق على قراءة واحدة للتاريخ، هذا مستحيل تمامًا.
القضية أن تكون هناك موضوعية فى القراءة حتى يمكن أن يتحدد مجرى رئيسى للنقاش العام يساعد مصر على استيعاب أهم تجاربها السياسية وتجديد مشروعها ــ الذى هو المشروع الوطنى والقومى المتجدد وفق احتياجات العصور المتغيرة.

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

سؤال عبدالناصر فى ذكراه سؤال عبدالناصر فى ذكراه



GMT 23:29 2022 الإثنين ,12 أيلول / سبتمبر

نحو قانون متوازن للأسرة.. بيت الطاعة

GMT 23:27 2022 الإثنين ,12 أيلول / سبتمبر

نحن عشاق «الكراكيب»

GMT 23:25 2022 الإثنين ,12 أيلول / سبتمبر

التوت و«البنكنوت»

GMT 20:38 2022 الإثنين ,12 أيلول / سبتمبر

الصفقة مع ايران تأجلت... أو صارت مستحيلة

GMT 07:51 2021 السبت ,11 أيلول / سبتمبر

الملالي في أفغانستان: المخاطر والتحديات

GMT 12:35 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

أفضل 10 وجهات سياحية شبابية الأكثر زيارة في 2024
  مصر اليوم - أفضل 10 وجهات سياحية شبابية الأكثر زيارة في 2024

GMT 17:17 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

الشرع يبحث مع فيدان في دمشق مخاوف أنقرة من الإرهاب
  مصر اليوم - الشرع يبحث مع فيدان في دمشق مخاوف أنقرة من الإرهاب

GMT 12:26 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

نصائح لاختيار قطع الأثاث للغرف متعددة الوظائف
  مصر اليوم - نصائح لاختيار قطع الأثاث للغرف متعددة الوظائف

GMT 22:50 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

بشرى تكشف عن أمنيتها للعام الجديد
  مصر اليوم - بشرى تكشف عن أمنيتها للعام الجديد

GMT 07:12 2024 الجمعة ,13 كانون الأول / ديسمبر

فينيسيوس الأفضل في العالم لأول مرة وهذا ترتيب ميسي وصلاح

GMT 15:43 2021 الخميس ,22 تموز / يوليو

بريشة : سعيد الفرماوي

GMT 22:56 2019 الإثنين ,09 كانون الأول / ديسمبر

إيهاب جلال يطمئن على فريد شوقي بعد تحسن حالته

GMT 16:26 2019 الأحد ,10 آذار/ مارس

سيدة كل العصور

GMT 06:37 2018 الثلاثاء ,28 آب / أغسطس

تعرف على سعرالمانجو في سوق العبور الثلاثاء

GMT 01:04 2018 الثلاثاء ,01 أيار / مايو

وداع أندريس إنييستا يخيم على احتفالات برشلونة
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
Egypttoday Egypttoday Egypttoday
Egypttoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
Egypt, Lebanan, Lebanon