بقلم: عبد الله السناوي
بدواعى مستجدات الأزمة الليبية المتفاقمة بدأت الأطراف الدولية والإقليمية المتداخلة إعادة ترتيب أوراقها وحساباتها ومواضع تمركزاتها بانتظار ما قد تسفر عنه مساجلات الدبلوماسية والسلاح.
بالحساب العسكرى جرت تراجعات ميدانية مفاجئة للجيش الوطنى الليبى، الذى يقوده المشير «خليفة حفتر»، جرى فك الحصار المفروض على طرابلس منذ أكثر من عام، وفرض الطرف الآخر فى الصراع السيطرة على محيط العاصمة متقدما باتجاه مدينة سرت الاستراتيجية بالقرب من الهلال النفطى.
لم يكن ذلك الانقلاب فى موازين القوى على الأرض ممكنا لولا التدخل التركى بالسلاح والرجال والمرتزقة وبينهم متشددون ينتمون إلى «داعش» لصالح القوات الموالية لحكومة الوفاق الوطنى، التى يترأسها «فايز السراج».
وبالحساب الدبلوماسى أفضت «المبادرة المصرية» بتوقيتها واتساق بنودها مع المقررات الدولية إلى إرباك اللاعب التركى فى لحظة انتشاء عسكرى، فقد أيدتها بدرجات حماس متباينة أطياف دولية وإقليمية متداخلة فى الملف المتخم بالصراعات على المصالح.
هكذا تصادم الحسابان المتعاكسان العسكرى والدبلوماسى وتبدت اعتبارات جديدة فوق الرمال الليبية المتحركة.
بقوة الحقائق فإن الاختراق العسكرى التركى يحتاج إلى غطاء دبلوماسى وسياسى، وإلا فإنه قد يجد نفسه منكشفا استراتيجيا على مسارح قتال لا يمكن حسم معاركها بالعمل العسكرى وحده بالنظر إلى اتساع خطوط القتال فى بلد شاسع جغرافيا.
وبقوة الحقائق فإن الاختراق الدبلوماسى المصرى يحتاج إلى تماسك عسكرى على الأرض يصحح الأوضاع الميدانية حتى لا يجد نفسه شبه مقيد فى أية مفاوضات محتملة.
ما بين السلاح والدبلوماسية وجد القائد العسكرى «خليفة حفتر» نفسه فى وضع لا يحتمل المماطلة فيما يجب البت فيه من قرارات وإجراءات تصحح جبهته الداخلية بإعادة وصل ما انقطع مع رئيس البرلمان الليبى المنتخب المعترف به دوليا المستشار «عقيلة صالح».
هذه مسألة شرعية لها ما يسندها فى الخطاب الدولى تضاهى وتوازن ما يدعيه الطرف الآخر «حكومة الوفاق» من شرعية الاعتراف الدولى تأسيسا على اتفاقية «الصخيرات»، التى عقدت عام (2015) وصادق عليها البرلمان.
الشرعيات مطعون عليها بالتقادم، أو باستنزاف مبررات وجودها، لكنها تظل ماثلة فى المساجلات الدبلوماسية ولا يمكن حجب التوظيف السياسى والدعائى لها حتى يمكن تأسيس شرعية حقيقية ومستدامة استنادا إلى الإرادة الحرة للشعب الليبى وحده.
قد يقال إن «المبادرة المصرية» تستهدف أساسا إنقاذ حليفها «خليفة حفتر».
هذه حقيقة لا يمكن نفيها بالنظر إلى اعتبارات الأمن القومى عند حدودها الليبية الممتدة لنحو (1200) كيلومتر مربع.
إذا ما تمركزت قرب الحدود قوات توالى الاستخبارات التركية تضم عناصر تنتسب إلى «داعش» ومثيلاتها، فإن هناك استباحة أمنية مؤكدة تقارب ما حدث بعد سقوط نظام العقيد «معمر القذافى» حين سربت إلى الداخل المصرى شحنات سلاح هائلة من مخازن الجيش الليبى المفكك ومخلفات حلف «الناتو» ومسلحون متشددون ارتكبوا أعمالا إرهابية مروعة.
الخطر الأمنى يتهدد بصيغة أخرى دولا أوروبية عديدة على الجانب الآخر من المتوسط بموجات هجرة غير شرعية، أو بعمليات إرهابية فى عواصمها ومدنها الكبرى تجد تمركزاتها فى ليبيا المستباحة.
قد يقال إن «المبادرة المصرية» تأخرت طويلا عن مواقيتها الطبيعية حين كان «حفتر» فى وضع عسكرى أفضل وقبضته الأعلى فى موازين القوى على الأرض، هذا صحيح، لكنه لا ينفى أهمية التوقيت فى إرباك الانتشاء العسكرى التركى حتى يمكن التوصل إلى تسوية عادلة وفق المقررات الدولية، أو تعديل الموازين العسكرية مرة أخرى.
وقد يقال إن «حفتر» تملص مرتين على الأقل من أية استحقاقات لوقف إطلاق النار والدخول فى تفاوض ينهى الصراع سلميا، كما حدث فى موسكو وبرلين، وأنه الآن يتقبل شبه مهزوما ما لم يرتضيه شبه منتصرا.
الانتقاد صحيح فى مجمله وعليه شواهد وأدلة، لكن موقف القائد الليبى المستجد خطوة صحيحة فى توقيت حرج تساعده باليقين على تحسين صورته الدولية وتمتين تحالفاته الداخلية.
يستلفت النظر ــ هنا ــ قدر العصبية المفرطة لقوات حكومة «الوفاق»، التى أخذت توزع الاتهامات أمام الفضائيات، وتصف الجيش الوطنى الليبى بالمتمردين على السلطة الشرعية دون أن يستند خطابها الاحتفالى بأية صدقية حيث تتهم هى نفسها باستدعاء الاحتلال العسكرى التركى والتفريط فى المقدرات النفطية للبلاد.
هذه حالة تنافر بين القوى المتصارعة وصلت إلى حدود يصعب تجاوزها بأى وقت منظور.
هكذا تبدو احتمالات الاحتكام إلى السلاح أكثر ترجيحا من احتمالات الحلول على موائد التفاوض برعاية دولية.
وما بين السلاح والدبلوماسية وجد الرئيس التركى «رجب طيب أردوغان» نفسه أمام حصار دبلوماسى محتمل، فبدأ هجوما مضادا لتفريغ «المبادرة المصرية» من قوة زخمها باتصالات مع المركزين الدوليين الكبيرين واشنطن وموسكو.
بشىء من المناورة السياسية حاول الإيحاء باستعداده للتوصل إلى تفاهمات سياسية، وأن هناك عناصر ومصالح مشتركة يمكن البناء عليها مع تركيا وليس مع غيرها.
بأية قراءة موضوعية يصعب عليه الخروج من المأزق إذا ما دعته اعتبارات السلاح فى اللحظة الراهنة إلى المضى قدما دون غطاء دولى متماسك للسيطرة على مصادر النفط الليبية، الجائزة الكبرى فى حسابات القوى الدولية المتناحرة.
بقدر ما هو ممكن ومستطاع سوف يذهب «أردوغان» إلى حافة النفط الليبى، لا يخفى ذلك ويعلنه أمام العالم فيما الخرائط أمامه، فى انتظار ردات فعل الأطراف الدولية الأخرى حتى يمكنه التفاوض توزيعا للحصص والغنائم.
يصعب أن تمر لعبة «أردوغان» بلا كلفه سياسية واستراتيجية باهظة، خاصة من الدول العربية والأوروبية المتداخلة بمواجهته فى النزاع على غاز شرق المتوسط، مصر واليونان وقبرص وفرنسا.
بأى حساب عسكرى يكاد يستحيل على تركيا أن تدخل أكثر من صدام على أكثر من محور استراتيجى بتوقيت واحد، فهى ليست قوى عظمى، كما أن الشروخ متسعة فى ثقة جيشها بنفسه، حيث جرى التنكيل بأكثر من (70%) من نخبة قياداته وجنرالاته بأعقاب الانقلاب العسكرى الفاشل عام (2016).
وبأى حساب دبلوماسى فإن هناك حدودا لألعاب الحواة فى السياسة الدولية، كان لافتا ومستغربا أن يزعم الرئيس التركى للرئيس الأمريكى المأزوم داخليا أن أكرادا سوريين وراء الاضطرابات التى تعم الولايات المتحدة بعد مقتل الضحية السوداء «جورج فلويد»!.
أمام لوحة سياسية وعسكرية ظلالها القاتمة تطارد ألوانها الزاعقة يتبدى سؤالان كاشفان لما قد يحدث غدا فى ليبيا المشتعلة بالنيران:
أولهما ــ مدى جدية الأطراف الدولية المتداخلة بالأزمة الليبية فى فرض وقف إطلاق النيران قبل الذهاب إلى تسوية سياسية برعاية الأمم المتحدة تنهى الصراع الدموى المزمن؟
الكلام العام لا يؤسس لضغط فاعل ولا لمرحلة جديدة ممكنة.
وثانيهما ــ مدى قدرة أية تسوية محتملة على نزع سلاح الميليشيات وتفكيكها ومنع أية تدخلات أجنبية، كما تدعو «المبادرة المصرية» والمقررات الدولية نفسها؟
إذا لم يكن ذلك ممكنا فإنه لا يمكن استبعاد التدخل العسكرى من الأطراف الإقليمية والدولية المتضررة من الجموح التركى لإعادة التوازن مرة أخرى إلى ميادين المواجهة والسيناريوهات كلها مفتوحة ما بين السلاح والدبلوماسية.