بقلم: عبد الله السناوي
عاما بعد آخر تطرح القضية نفسها على رأى عام يجد نفسه حائرا وممزقا بين ثقافة فعل الخير بإغاثة المحتاجين لعلاج ومأوى وطعام، وقدر الشكوك المتراكمة فى سلامة التصرفات المالية للجهات التى تصب التبرعات فى خزائنها.
الأزمة مزمنة، أسئلتها متراكمة وإجاباتها غائبة، والقضية كلها معلقة على حسم لا يجىء، وتحقيق لا يحدث.
فى هذا العام تبدت حالة تدافع على جمع الأموال بالتبرع لصالح مؤسسات ومشروعات استثمارا فى الجزع العام الذى أصاب المواطنين تحت ضربات الجائحة والرغبة فى التضامن ومد يد العون للآخرين الأكثر احتياجا.
هناك فارق جوهرى بين فعل الخير كعمل إنسانى تكافلى وبين الاستثمار فيه لأهداف ليست فوق مستوى الشبهات.
باسم أعمال الخير ونجدة المحتاجين توالت بصورة غير مسبوقة على شاشات الفضائيات موجات متلاحقة من الإعلانات تطلب من المشاهدين التبرع لجهات مختلفة متنافسة، وتخاطب ميلهم لأعمال الخير والتصدق خلال شهر رمضان.
ما تكلفة الإعلانات؟.. وما حجم ما ضخ فيها من أموال؟
هذا سؤال افتتاحى فى أى تحقيق محتمل.
لا شىء مجانى باستثناء ما يخرج من جيوب المتبرعين!
من حق الرأى العام أن يطلع على أوجه التصرف بأموال التبرعات، كم بلغت؟.. وكيف صرفت؟
هذان سؤالان فى صلب أى تحقيق يطلب إجلاء الحقيقة.
بعض الإعلانات بالغت فى التفزيع لجلب التبرعات، وبعضها الآخر حشدت شخصيات فنية ورياضية لإقناع المشاهدين بالتبرع، أحيانا بحق وأحيانا أخرى بغير حق.
إحدى المؤسسات الخيرية بثت فى الموسم الرمضانى إعلانات أكثر من شركات المحمول والمياه الغازية، كأنها فى سباق محموم على أموال المتبرعين.
فى اندفاعها دعت الفلاحين شبه المعدمين لتخصيص بعض قراريط أراضيهم وقفا لصالح المستشفى.
هذا توحش فى جلب الأموال من جيوب الفقراء وأشباه المعدمين باسم أعمال الخير، فيما المستشفى نفسه لا يعلن تكلفة الإعلانات، التى وصلت فى عام سابق إلى (١٣٣) مليونا، ولا قدر ما يتلقاه العاملون فيه من أطباء وإداريين من أجور، فيما الأصل التطوع لا تلقى المكافآت الباهظة.
ما تكاليف علاج المرضى بكل مشتملاته من مستلزمات وأدوية وتجهيزات طبية؟
هذا هو السؤال الأساسى فى الحكم على شرعية جمع الأموال باسم التبرع لمرضى ليس بمقدورهم الحصول على علاج.
بقدر ما هو متوافر من وثائق ومستندات منشورة ومتداولة عن أحد المستشفيات الخيرية لعلاج مرضى السرطان، فإن الفجوة هائلة بين حجم ما يجمع من تبرعات وحجم ما يصرف على المرضى، رغم أن هذا الصرف موضوع التبرع وهدفه الأصيل، وربما الوحيد.
هنا يتبدى سؤال ضرورى لوضع الخطوط الفاصلة حتى لا تختلط الأوراق:
ما المؤسسات الطبية الخيرية التى تفى بتعهداتها المعلنة؟ وما المؤسسات التى تتغول على أموال التبرعات لمصالح شخصية ليست فوق مستوى الشبهات؟
فتح الملفات حق عام واستبيان الحقيقة انتصار للعمل الخيرى حتى تذهب أمواله إلى أغراضه.
إنها قضية مجتمع بأسره من حقه أن يرى الخطوط الفاصلة بين ما هو جائز وما هو غير جائز، ما هو خيرى وما هو مُجرم.
إجلاء الحقيقة أمام الرأى العام مسألة عدالة وحساب وانتصار فى نفس الوقت لـ«ثقافة التبرع لأعمال الخير».
لا يصح أن تترك التساؤلات معلقة على مشاحنات تخرج عن الموضوع ولا تجيب عليها، مرة باسم الحفاظ على صروح طبية ومؤسسات خيرية شيدت بأموال المواطنين، ومرة باسم أنها تؤثر سلبيا على تدفق أموال التبرعات اللازمة لإغاثة مرضى ومحتاجين.
الموضوع هو سلامة التصرفات المالية والإدارية، وإذا ما كانت أموال التبرعات قد وظفت لغير أغراضها وشابتها تجاوزات تستحق التحقيق والمساءلة.
إذا غاب الحساب بشفافية وعدالة فإن تلك الثقافة سوف تتقوض ويصبح العمل الأهلى كله دون ذنب ملطخا بالشكوك والريب.
كأى قضية رأى عام، فإنه لا بد أن تكون هناك فى النهاية إجابات مقنعة على كل ما طرح من تساؤلات على مدى أعوام مضت تنال من سلامة التصرفات فى أموال التبرعات.
قبل نحو عامين ثارت تساؤلات حول سلامة التصرفات المالية لأشهر مستشفى لعلاج الأطفال المصابين بالسرطان فى مصر، أنشئت لجنة من وزارة التضامن الاجتماعى لتقصى الحقائق قالت إن أعمالها سوف تشمل كل المؤسسات المماثلة غير أن نتائجها لم تساعد على إعادة بث الثقة بدور الدولة فى حفظ أموال التبرعات والتأكد من سلامة التصرف فيها.
هذا العام أعادت القضية طرح نفسها مجددا على شبكة التواصل الاجتماعى، طرحت الأسئلة القديمة وشابتها نبرة يأس هى ترى أمامها تنافسا ضاريا على طلب التبرعات دون أن يكون واضحا أنها سوف تصل إلى مقاصدها.
هكذا شاعت دعوات تطلب من المواطنين أن يتجنبوا من أطلقوا عليهم «ضباع التبرعات»، وأن يتولوا بأنفسهم مد يد العون لمن يحتاجه من المقربين لهم، أو الذين يطلعون على أحوالهم الصعبة.
أسوأ ما قد يترتب على «نظرية الضباع» أن يمتد أثرها السلبى إلى مؤسسات لها سمعتها واحترامها مثل مستشفى مرضى القلب بأسوان الذى يشرف عليه الدكتور «مجدى يعقوب»، أو «بيت الزكاة والصدقات المصرى» الذى يشرف عليه شيخ الأزهر.
إجلاء الحقيقة وإحالة أية تجاوزات للتحقيق أمام النائب العام من ضرورات صون ثقافة فعل الخير من الأهواء والمصالح.
أخطر ما قد يحدث فى غياب الشفافية ضرب فلسفة العمل الأهلى التطوعى.
فى بلد مثل مصر فإن العمل الأهلى لا غنى عنه، هناك نحو (47) ألف جمعية أهلية تعمل أغلبها على توفير خدمات صحية وتعليمية لأعداد كبيرة من المواطنين.
أرجو ألا ننسى أن فلسفة العمل الأهلى سد ما لا تقدر أن تصل إليه الخدمات الحكومية.
سند لا بديل.
إذا ما غاب الأصل فإننا أمام أزمة كبرى سوف تتفاقم آثارها السلبية.
أهم الأسئلة فى زمن «كورونا»:
ما مسئولية الدولة فى صون الصحة العامة، وكيف تدهورت خدمات المستشفيات العامة ومستوى ما يحصل عليه المواطن من علاج؟
مراجعة السياسات والأولويات من ضرورات مواجهة التحديات والجوائح.
ومن بين ما يستحق المراجعة بالشفافية سؤال: أين تذهب أموال التبرعات؟