بقلم: عبد الله السناوي
ليس هناك مسوغ واحد مقنع ومتماسك للدعوة مجددا لإعادة تمثال «فرديناند ديليسبس» إلى قاعدته عند مدخل قناة السويس.
بالتوقيت لا تحتمل مصر صرف انتباهها عن الأخطار التى تتهددها فى وجودها بأزمة «سد النهضة»، أو فى أمنها القومى عند حدودها الغربية مع ليبيا.
هذه نقطة نظام أولى.
فى حرب السويس عام (1956) نزع تمثال «ديليسبس» عن موضعه بإرادة أهل بورسعيد، الذين حاولوا نسفه مرة تلو أخرى تعبيرا عن روح المقاومة وطلب عودة الحق إلى أصحابه.
لم يكن نزع التمثال بقرار إدارى حتى يعود بقرار مماثل.
هذه نقطة نظام ثانية.
بالوثائق المصرية والفرنسية قاد «ديليسبس» أخطر عملية احتيال فى التاريخ الحديث، حيث امتلكت مصر (٤٤٪) من رأسمال الشركة دون أن يكون لها أى سيطرة على أمورها، فضلًا عن التضحيات الباهظة التى دفعها فلاحوها أثناء حفر القناة.
تحت السخرة مات نحو مائة ألف مصرى فى عمليات الحفر، وهو رقم مهول بالنظر إلى عدد السكان فى ذلك الوقت، نحو أربعة ملايين نسمة.
السخرة أسوأ أنواع العنصرية.
إذا ما كان يقال اليوم بتداعيات مقتل المواطن الأمريكى الأسود «جورج فلويد» إن «حياة السود مهمة» فإنه يتوجب القول إن حياة البشر كلها مهمة، وحياة المصريين مهمة، وإن ما جرى معهم أثناء حفر قناة السويس جريمة عنصرية متكاملة الأركان تستدعى المحاسبة والإدانة والاعتذار عن جروح الماضى لا إعادة وضع تمثال «ديليسبس» فى موضعه القديم.
هذه نقطة نظام ثالثة.
بأعقاب مقتل «فلويد» عمت الولايات المتحدة تظاهرات واحتجاجات، كأنها براكين غضب على العنصرية المتجذرة، هدمت تماثيل وأزالت لوحات تكريم لجنرالات وقادة عنصريين انخرطوا فى الحرب الأهلية، بقدر ما دعت لإصلاح جهازى الشرطة والعدالة.
براكين الغضب نالت شخصيات تاريخية مثل الرئيس الأمريكى «وودرو ويلسون» مؤسس عصبة الأمم بعد الحرب العالمية الأولى، الذى دعا إلى مبدأ حق تقرير المصير دون أن يلتزم به عندما هبت الثورة المصرية عام (1919).
عندما امتدت شرارات الغضب إلى القارة الأوروبية جرى هدم تماثيل أخرى لشخصيات ذات سجل عنصرى.
فى بريطانيا تأذت سيرة رئيس وزرائها الأسبق «ونستون تشرشل» الذى قاد بلاده إلى النصر فى الحرب العالمية الثانية برذاذ سجله العنصرى إلى درجة المطالبة بهدم تماثيله.
إذا كان ذلك ممكنا فى أكبر بلدين غربيين: الولايات المتحدة وبريطانيا، فهل يعقل أن نحتفى هنا بمحتال عنصرى مثل «ديليسبس»؟!
بعض الذين يدعون إلى إعادة التمثال يقرون بأنه كان محتالا، فإذا ما كان كذلك هل يليق ببلد يحترم نفسه وتاريخه أن يقدم على خطوة هى بأى اعتبار نوع رفيع من التكريم!
هذه نقطة نظام رابعة.
الأسوأ أن يقال إن إعادة تمثال «ديليسبس» ينطوى على إشارة صداقة إلى فرنسا والحرص على تدعيم العلاقات معها!
الكلام بنصه ينزع عن حركات التحرير الوطنى شرعيتها التاريخية والأخلاقية.
والكلام برسالته أقرب إلى السذاجات السياسية، فالعلاقات بين الدول تحكمها المصالح والاستراتيجيات قبل وبعد كل شيء.
ليس من مصلحة فرنسا فى هذه المنطقة من العالم أن تستقطب مشاعر الغضب والكراهية الشعبية إذا ما عاد تمثال «ديليسبس» عند مدخل قناة السويس رمزا للقهر والاحتيال والعنصرية التى ارتكبت بحق المصريين.
بحسابات المصالح الاستراتيجية اقتربت فرنسا من الموقف المصرى فى الأزمة الليبية والصراع على الغاز فى شرق المتوسط، كما فى أزمة «سد النهضة»، لا بتهويمات عودة تمثال «ديليسبس».
هذه نقطة نظام خامسة.
لم تكن مصادفة أن يعتذر الملك البلجيكى للكونغو الديمقراطية فى ذكرى اغتيال أيقونة حركات التحرير الوطنى الإفريقية خمسينيات وستينيات القرن الماضى «باتريس لومومبا».
مصالح بلجيكا حكمت اعتذاره قبل الاعتبارات الأخلاقية.
بدت كلماته واضحة وصريحة فى الاعتراف بـ«جروح الماضي» و«آلام التمييز التى مازالت حاضرة فى مجتمعاتنا».
ماذا عن جروحنا نحن.. وآلام التمييز العنصرى التى عانى منها أجدادنا فى حفر قناة السويس؟
هذه نقطة نظام سادسة.
لم تكن قناة السويس لمصر التى حفرتها على مدى ستة عشر عامًا متصلة، وفق نص التعاقد الذى أبرمه «ديليسبس» مع الخديو «سعيد»، الذى استنزف موارد مصر وقدراتها المالية، أسقطها فى شرك الديون الخارجية، وأفضى إلى احتلالها عام (١٨٨٢) بالسلاح البريطانى.
بدت مصر كلها رهينة للقناة حتى تمكنت من تأميمها منتصف القرن التالى.
لم تكن شركة تستثمر بقدر ما كانت دولة داخل الدولة.
بقرار التأميم رد اعتبار الوطنية المصرية، وتمكنت دولة من العالم الثالث من تحدى الإمبراطوريتين السابقتين البريطانية والفرنسية فى صلب مصالحهما الاستراتيجية فى الشرق الأوسط، حيث منابع النفط الذى تمر حمولاته عبر قناة السويس.
اكتسبت مصر استقلالها الوطنى الكامل فى حرب السويس بفواتير الدم المبذولة وشجاعة أبنائها الذين هرعوا لحمل السلاح فى مواجهة العدوان الثلاثى، البريطانى ــ الفرنسى ــ الإسرائيلى، لا بـ«اتفاقية الجلاء» التى وقّعها «جمال عبدالناصر» نفسه عام (١٩٥٤) وانطوت على تنازلات تتيح للقوات البريطانية حق العودة لقاعدة قناة السويس، إذا ما تعرض بعض حلفائها للخطر.
فكرة التأميم لم يخترعها «عبدالناصر»، ولا طرأت على رأسه فجأة.
قبل «يوليو»، ترددت دعوات متناثرة تضمنتها ــ أحيانًا ــ دراسات تتبنى هذه الخطوة، لكنها كانت أقرب إلى الأحلام البعيدة والتخيلات المحلقة.
رغم آلاف الوثائق والشهادات والكتب التى نُشرت عن حرب السويس فإن هناك من يطلب نزع أى قيمة عن التضحيات التى بُذلت حتى يكون استقلال القرار الوطنى مستحقًا.
ليس من حق أحد، بذريعة أو أخرى، هدم المعنى الحقيقى لاستقلال القرار الوطنى.
المعنى نفسه يستحق الدفاع عنه، الآن وفى كل وقت، بمناسبة الكلام مجددا عن عودة تمثال «ديليسبس» أو بدون مناسبة، حتى تظل للذاكرة العامة احترامها وحرمتها.
وهذه نقطة نظام سابعة فى ملف لا يصح أن يعرض على بلد اكتسب ذات يوم استقلال قراره بدم أبنائه.