بقلم: عبد الله السناوي
رسائل السلاح تطرح نفسها بالتزامن على محورين استراتيجيين مختلفين فى أزمة «سد النهضة» والأزمة الليبية.
أزمة المياه تتفاقم، كأنها توشك أن تهوى من فوق منحدرات الهضبة الإثيوبية، إلى حيث يتهدد الأمن والسلم الدوليان فى حوض نهر النيل.. والأزمة الليبية تكاد تنفجر بالنيران عند الحدود الغربية.
أزمة المياه تكتسب أولويتها من طبيعتها.. فهى مسألة وجودية، حيث نهر النيل هو المصدر الرئيسى للمياه ونضوب موارده يفضى إلى شح مائى جسيم لا تحتمل تداعياته على الحياة نفسها.. وأزمة الصراع فى ليبيا قضية أمن قومى، الانشغال بها لا يحتمل التأجيل، لكنها لا تنازع أزمة «سد النهضة» على خرائط القلق العام فى مصر.
فيما يبدو جليا وظاهرا أن الاستراتيجية التركية فى إدارة الأزمة الليبية، تعمل على بناء نقاط تمركز عسكرية مستدامة فى قاعدتى «الوطية» الجوية و«مصراتة» البحرية، والسيطرة على الهلال النفطى والتنقيب عن الغاز فى شرق المتوسط دون مقاومة كبيرة، اعتمادا على مناورات سياسية واستراتيجية بين القطبين الكبيرين الولايات المتحدة وروسيا.
هكذا تغولت تركيا فى الأزمة الليبية، ووسعت من نطاق تدخلها، وحصلت على ضوء أخضر أمريكى لمواجهة تمدد الدور الروسى، وألمحت بالوقت نفسه لموسكو بالاستعداد للتوصل إلى تقاسم المصالح والنفوذ على غرار مسار «أستانة» وتفاهمات «سوتشى» بشأن الأزمة السورية.
التعقيدات المستجدة على المسرح الليبى، اعترضت الاستراتيجية التركية، المبادرة المصرية أربكتها، فرنسا تداخلت بالتصعيد الدبلوماسى، روسيا أجلت اجتماعا فى إسطنبول لوزيرى دفاع وخارجية البلدين، تعبيرا عن أزمة ثقة عميقة، والولايات المتحدة منشغلة فى أزماتها الداخلية ورئاستها مهمومة بتراجع فرص تجديد ولايتها فى الخريف المقبل.
إننا أمام استراتيجية تتخطى ما هو شائع من اتهامات للرئيس التركى «رجب طيب أردوغان» من هوس بالخلافة الإسلامية، أو إعادة إحيائها بقيادة عثمانية جديدة.
إنه النفط والغاز أولا، والتمدد الإقليمى واكتساب مناطق نفوذ بقوة العضلات العسكرية ثانيا وتأكيد أهليته لتزعم تيار الإسلام السياسى باختلاف درجة تشدد جماعاته ثالثا.
وقد كان التلويح المصرى باستخدام السلاح فى ليبيا داعيا لأول مرة فى تاريخ النزاع الليبى إلى إقرار تركى بأن لمصر حقا لا ينكر فى الدفاع عن أمنها القومى رغم العلاقات المتدهورة بين البلدين ــ بنص تصريح رسمى.
تبدت موازين قوى جديدة فى حسابات القوى والمصالح ربما تساعد فى إحياء جدى لوقف إطلاق النيران والبدء فى عملية سياسية جديدة تحت إشراف الأمم المتحدة.
وفيما يبدو جليا وظاهرا أن الاستراتيجية الإثيوبية فى إدارة أزمة «سد النهضة»، تعمل على التحكم فى استخدام مياه النيل الأزرق والسيطرة الكاملة على موارده العابرة للحدود دون أى ضوابط وقيود قانونية، أو التفات لقدر الضرر الذى يلحق بدولتى المصب مصر والسودان، كأنه ملك حصرى لإثيوبيا وحدها.
هكذا أهدرت التفاهمات التى جرى التوصل إليها عبر سلسلة طويلة من المفاوضات الثلاثية، آخرها وثيقة (21) فبراير، التى أسفرت عنها مباحثات واشنطن برعاية وزارة الخزانة الأمريكية والبنك الدولى، حين امتنعت عن الحضور لحفل التوقيع.
قيل وقتها إن ما تم التفاهم عليه (90%) وأن مساحة الاختلاف محدودة ومقدور عليها.
حين عادت المفاوضات عبر الفيديو كونفرانس، بمبادرة سودانية، ومراقبة من الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبى وجنوب إفريقيا الرئيس الحالى للاتحاد الإفريقى، قيل مرة أخرى إن ما تم التفاهم عليه النسبة نفسها، كأن اللعبة بلا نهاية، أو مقصود ألا تصل لنهاية تنزع فتيل الأزمة وفق القواعد والقوانين الدولية.
معضلة المفاوضات المتعثرة فى طبيعة الاستراتيجية الإثيوبية نفسها.
كان لافتا للانتباه التناقض الفادح بين ما تردد عن تفاهمات فنية فى أمان السد والملء الأول والتشغيل طويل الأمد وتبادل البيانات والدراسات البيئية واللجنة الفنية للتعاون، حسب وزير الرى السودانى، ورفض إثيوبيا التوقيع على أى اتفاق قانونى ملزم يحتكم إليه، ويتضمن آلية محددة لفض المنازعات.
يفترض أن الأسبقية فى مثل هذه المفاوضات للجوانب الفنية قبل أن يتكفل القانونيون بوضع صياغاتها المدققة.
الكلام الإثيوبى عن عدم إلزامية الاتفاقية، يعنى بالضبط أنها لا تساوى الحبر الذى تكتب به.
فى أفضل الأحوال فإنها استرشادية يمكن تعديلها من طرف واحد، وفى أى وقت يشاء.
إذا ما بدأت إثيوبيا فى ملء خزان «سد النهضة»، مطلع يوليو المقبل بلا اتفاق فإن هناك مسارين لتصعيد الأزمة.
أولهما إجبارى، بالذهاب إلى مجلس الأمن، كما حدث فعلا، باعتبار أن التعنت الإثيوبى يمثل تهديدا خطيرا للأمن والسلم الدوليين، يستدعى تدخلا قبل أن تشتعل النيران فى هذه المنطقة من العالم.
المسار الدبلوماسى، يستهدف ممارسة أقصى درجة ممكنة من الضغط على إثيوبيا حتى تستجيب للقوانين الدولية المنظمة لمياه الأنهار عابرة الدول قبل ملء خزان السد.
وثانيهما اضطرارى، إذا ما وصلت الأزمة إلى طريق مسدود، وهو له تكاليفه ومحاذيره وحساباته وتداعياته، لا أحد يريد فى مصر العمل العسكرى، لكن إثيوبيا تدفع الأمور إليه.
القضية ليست أن تقدر أو لا تقدر مصر، فالجيش المصرى من أقوى عشرة جيوش فى العالم، غير أن ذلك يسمم العلاقات بين بلدين يربطهما شريان حياة واحد بصورة يصعب ترميمها على أى مدى.
بنفس القدر لا أحد فى مصر يحبذ التدخل العسكرى المباشر فى الصحراء الليبية الشاسعة، أو أن يقع فى ذات المستنقع الذى يتهدد «أردوغان» الآن، لكنها اعتبارات الأمن القومى، فإذا ما نجحت القوات الموالية لتركيا فى السيطرة على مدينة سرت الاستراتيجية بالقرب من الهلال النفطى فإن الأمن المصرى على حدوده الغربية يوضع تحت تهديد السلاح فى وضع استباحة.
المثير واللافت أن تركيا تتحسب لأية مواجهات سلاح محتملة فوق الأراضى الليبية، خشية ما قد يلحق بها من خسائر باهظة، أعلنت أكثر من مرة على أكثر من مستوى أنها لم تأت لليبيا لحرب مصر، وقد يساعد ذلك على وضع خطوط حمراء لا يجرى تجاوزها انتظارا لما قد يحدث فى عملية التسوية الأممية.
بدا التلويح المصرى فى توقيته وإخراجه كرسالة سلاح منضبطة تحت سقف معلن أنه لن يستخدم إلا إذا جرى تجاوز خط سرت ــ الجفرة.
هذا ليس إعلان حرب بقدر ما هو تعبير عن مشروع تدخل إذا لم تحترم الخطوط الحمراء، وهو موقف يمكن أن يحظى بنوع من الدعم الدولى معلن وغير معلن، كما له آثاره وتداعياته الإيجابية على تحسين الموقف المصرى فى أزمة سد النهضة.
فى نفس الوقت تندفع إثيوبيا لتصعيد كلامى خطير على لسان نائب رئيس أركان جيشها من أنها مستعدة للحرب، وبوسعها أن «تثبت للمصريين والعالم قدرتها على إدارتها عندما يحين وقتها».
فى الكلام الإثيوبى مخاطبة للغرائز الشعبية لا تسنده حقائق القوة، وهو ينطوى على إضرار فادح بأية تطلعات مشروعة لبلاده فى التنمية والكهرباء، شرط ألا تضر بمصالح الآخرين المائية.
بالنظر إلى الأولوية المطلقة لأزمة «سد النهضة» فإن رسالة السلاح واصلة دون ضجيج إلى أديس أبابا، وربما تدفع لتدخلات دولية أكثر حسما للتوصل إلى اتفاق شامل ومنصف وعادل لمياه نهر النيل.
التزامن يسمح بأن تكون رسائل السلاح فاعلة بهيبتها دون حاجة لاستخدامه إذا ما كانت الخطوات حازمة ومحسوبة والرأى العام حاضرا ويقظا.