بقلم: عبد الله السناوي
إذا ما أجريت الانتخابات الأمريكية الآن فسوف يخسرها الرئيس الحالى «دونالد ترامب» بفداحة، وفق استطلاعات الرأى العام، لكن الحساب الأخير يظل مرتهنا بما قد يحدث من تطورات وحوادث فى الشهور القليلة المتبقية حتى مطلع نوفمبر المقبل.
فى أوضاع قرب النهاية يتصرف «ترامب» غير واثق من نفسه، رغم الكتلة التصويتية التى تسانده تقليديا، تفلت عبارات وتحرشاته الإعلامية عن كل قيد، كأنه فى حلبة ملاكمة مفتوحة من التى اعتاد المشاركة فيها ببرامج تلفزيون الواقع.
لم يكن الاستنتاج الرئيسى فى مذكرات مستشاره السابق للأمن القومى «جون بولتون» بعدم صلاحيته للرئاسة مفاجئا لأحد بقدر ما كان تأكيدا لحقيقة متداولة، لكنها جاءت هذه المرة من داخل غرف البيت الأبيض، وفق المثل العربى الشهير «وشهد شاهد من أهلها».
مذكرات «بولتون» عن فترة عمله فى البيت الأبيض أقرب إلى مرآة لمدى التخبط والعشوائية فى صناعة القرار الأمريكى.
كلاهما، «ترامب» و«بولتون»، يصعب نسبته إلى أى نسق أخلاقى متماسك، أو قيمة إنسانية يعتد بها.
أولهما: يمينى شعبوى براجماتى يتصرف كمقاول عقارات لا كرجل سياسة يتولى مسئولية القوة العظمى الأولى.. وثانيهما: ينتمى بأفكاره وتجاربه إلى صقور الحرب فى إدارة الرئيس الأمريكى الأسبق «جورج دبليو بوش»، الذين خططوا لتحطيم العراق بالغزو المسلح عام (2003) وتفكيك جيشه وإثارة النعرات الطائفية فيه طلبا لإعادة هندسة الشرق الأوسط من جديد لكى تكون إسرائيل مركز قيادة تفاعلاته.
إذا ما قال «بولتون» إن «ترامب» لا تتوافر فيه مقومات القيادة ولا يوجد لديه أى استراتيجية فى إدارة الملفات الدولية، ومعلوماته الجغرافية والاستراتيجية تقارب الفضائح المخجلة، فهو لا يفترى ولا يكذب.
وإذا ما قال «ترامب» إن مستشاره السابق «مهووس بالحرب»، ولا يصلح أن يتولى أكثر المواقع حساسية وخطورة فى البيت الأبيض، فهو يلامس حقيقته رغم أنه اختياره.
بأى مراجعة موضوعية لقدرات وكفاءات الذين تولوا المنصبين الرئيسيين فى البيت الأبيض منذ الحرب العالمية الثانية فإن الرجلين يحتلان أسفل السلم بلا منازع.
السياق العام قرب الانتخابات الرئاسية أضفى على مذكرات «بولتون» دويا يفوق قيمتها، كأنها ضربة معول من داخل صفوف اليمين الأمريكى المتشدد لفرص «ترامب» الانتخابية.
فى السياق تتبدى أزمتان كبيرتان زعزعتا على التوالى المركز الانتخابى لـ«ترامب».
الأولى، جائحة «كورونا» وما تبدى فيها من فشل ذريع فى إدراك خطورتها، أو التصرف بمسئولية وكفاءة تجاهها، فاحتلت الولايات المتحدة المركز الأول عالميا على عداد الإصابات والوفيات.
والثانية، مقتل المواطن الأسود «جورج فلويد» والتداعيات الصاخبة التى هزت الولايات المتحدة من أعماقها وتمددت احتجاجاتها إلى عواصم أوروبية عديدة، كأنها استفتاء مزدوج على العنصرية المتجذرة وأهلية رجل بمواصفات «ترامب» لقيادة العالم الغربى.
قبل الأزمتين كان شبه مؤكد تجديد ولاية «ترامب» لفترة ثانية، بالنظر إلى أن منافسه الديمقراطى «جو بايدن» يفتقد أى كاريزما أو قدرات خاصة.
حسب شهادة «بولتون» فـ«ترامب» مستعد أن يعمل أى شىء للبقاء فى مقعده الرئاسى، ولو أن الأمر بيده لأجرى تعديلا دستوريا يسمح له بمثل هذا البقاء، كما أخبر الرئيس الصينى «شى جين بينج».
بتداعيات «كورونا» اختلفت الصورة بحثا عن ذريعة يبرر بها فشله فى إدارة الأزمة، تصاعدت حملاته على الصين حتى وصل إلى حد التلويح بـ«انفصال اقتصادى كامل» رغم أنه يدرك أنه خيار شبه مستحيل بالنظر إلى قدر تداخل المصالح بين أكبر اقتصادين فى العالم.
انقلاباته المفاجئة لم تعد تدع مجالا لأى مفاجأة، فكل شىء ممكن ومتاح بقدر ما يساعد فى دعم حملاته الانتخابية المتعثرة.
هكذا أبدى استعداده للقاء الرئيس الفنزويلى «نيكولاس مادورو»، الذى يناصبه العداء بالحصار الاقتصادى ومحاولات الاغتيال، وسحب اعتراف بلاده بزعيم المعارضة «خوان جوايدو»، الذى جرت جهود مضنية لفرض الاعتراف به رئيسا شرعيا للبلاد.
بالنسبة لـ«بولتون» فإن الحرب اختياره الأول، وفق نظرة إلى العالم تراه خاضعا تحت سطوة القوة الأمريكية.
وبالنسبة لـ«ترامب» فيمكنه أن يفعل الشىء وعكسه حسب توقعات الربح والخسارة.
إذا ما أصبح «بايدن» رئيسا فسوف تطوى أكثر صفحات التاريخ الأمريكى المعاصر فوضوية وتخبطا، دون أن يعنى ذلك ــ بالنسبة لنا فى الإقليم المشتعل بالنيران ــ تحولا دراماتيكيا بالملفات الرئيسية، إلا بقدر ما نبديه من إرادة وهمة فى الدفاع عن مصالحنا.
وإذا ما جدد «ترامب» ولايته فإن مستقبل الإمبراطورية والمصير الأمريكى نفسه قد يوضع على المحك لأول مرة منذ الحرب العالمية الثانية، حيث من المحتمل أن يرتفع سقف التمزقات الداخلية إلى حدود تتهدد وحدة الدولة وسلامة مؤسساتها.
فى غضون الشهور القليلة المقبلة لا يستبعد إقدام «ترامب» على تصرفات وقرارات مفاجئة بملفات الإقليم، التى تبدو كبطن رخوة يسهل الضرب عليها دون تكاليف باهظة.
بين أكثر الأسئلة إلحاحا فى هذه اللحظة القلقة: ما حدود التفاهمات المعلنة وغير المعلنة بين واشنطن وأنقرة فى الأزمة الليبية والصراع على الغاز فى شرق المتوسط؟ وما حدود التفويض بالتغول فى الأزمتين السورية والعراقية؟
أخطر ما فى مذكرات «بولتون» عن فترة وجوده فى البيت الأبيض قدر المعلومات المسربة عن طبيعة العلاقات الخاصة بين الرئيسين الأمريكى والتركى، التى صنفتها صحيفة «الواشنطن بوست» كـ«صفقات فساد».
وبين أكثر الأسئلة إلحاحا: ما الدور الذى يمكن أن يضطلع به البيت الأبيض فى ظروفه الحالية فى حلحلة أزمة «سد النهضة» للحيلولة دون تفجرها؟
لا يخفى حجم التناقض فى النظر إلى أزمة «سد النهضة» داخل الإدارة الأمريكية نفسها بين وزير الخزانة «ستيفن منوشين»، الذى أشرف على مفاوضات واشنطن بين الأطراف الثلاثة مصر والسودان وإثيوبيا وتوصل إلى مشروع اتفاق للتوقيع عليه فى فبراير الماضى، ووزير الخارجية «مايك بومبيو»، الذى شجع الإثيوبيين على عدم التوقيع بذريعة أن المفاوضات ما زال أمامها شوط طويل!
ثم قد يجد «ترامب» نفسه أمام أزمة متفجرة بحمولاتها الاستراتيجية والتاريخية والأخلاقية خلال أيام، إذا ما أقدمت إسرائيل على ضم الكتل الاستيطانية فى الضفة الغربية المحتلة.
منافسوه الديمقراطيون يتبنون «حل الدولتين»، الأوروبيون يلوحون بالتصعيد دون أن تتضح حدوده وإجراءاته، الفلسطينيون يتوعدون بالرد، وإسرائيل فى حالة طوارئ تحسبا لما قد يحدث، ووزير خارجيته يقول: «القرار فى عهده إسرائيل وحدها»، كأنه لا يشجعها عليه.
ماذا قد يحدث من تداعيات قد تمثل عبئا إضافيا على فرصه فى حصد المنصب الرئاسى مجددا؟
الحسابات الانتخابية تدخل بالضرورة فى حسابات المواقف المحتملة، والسيناريوهات كلها مفتوحة أمام رجل لا يتصور أن يغادر مقعده فى البيت الأبيض.