بقلم: عبد الله السناوي
قرب منتصف عام (1974) تبدت فى زيارة الرئيس الأمريكى الأسبق «ريتشارد نيكسون» للقاهرة كل أسباب الإثارة السياسية.
بالتوقيت أعقبت الزيارة حرب أكتوبر بشهور قليلة، وكانت تعبيرا عن تحولات جوهرية فى النظر إلى الدور الأمريكى على عكس ما استقر طوال سنوات ثورة يوليو، كما رافقت أجواء فضيحة «ووترجيت»، التى تهدده بالعزل من منصبه.
حملته من المطار سيارة مكشوفة بجوار الرئيس الأسبق «أنور السادات»، رفعت لافتات ترحب، وجلبت جماعات تهتف.
فى تلك الأجواء أنشد الشيخ «إمام عيسى» من أشعار «أحمد فؤاد نجم» واحدة من أشهر أغانيه وأكثرها ذيوعا: «شرفت يا نيكسون بابا يا بتاع الووترجيت».
ولخصت رواية الأديب «يوسف القعيد» «يحدث فى مصر الآن»، التى تحولت إلى شريط سينمائى باسم «المواطن مصرى»، الصورة التى بدت عليها التناقضات الفادحة بين الذين ضحوا فى ميادين القتال والذين جنوا ثمارها على خلفية ما جرى من استقبال مصطنع فى محطات سكك حديدية توقف عندها القطار الذى نقل الرئيسين إلى الإسكندرية.
فى أول فبراير (1974) كتب الأستاذ «محمد حسنين هيكل» واحدا من أهم مقالاته وأكثرها اختلافا مع توجهات «السادات»، التى توشك أن تعلن عن نفسها، حمل عنوان «الظلال والبريق».
كان مقاله الأخير، غادر «الأهرام» وافترقت الطرق.
كتب بالحرف: «أن الرئيس الأمريكى الحالى فى وضع بالغ السوء، فهو متهم بما لم يسبق لأى رئيس أمريكى أن اتهم به: التحايل على العدالة ــ التهرب من القانون ــ استغلال النفوذ ماديا ــ الكذب على الكونجرس وعلى الرأى العام الأمريكى ــ تزييف الأدلة والتلاعب فى الأشرطة المسجلة»، قاصدا ما يثبت التجسس على مقرات الحزب الديمقراطى.
ثم أشار إلى أن «المعلومات والتقارير تؤكد أن عملية عزل الرئيس الأمريكى قد تبدأ فى أى وقت من الآن، ولسوف يقاوم قدر استطاعته، ولكنه إذا عجز عن المقاومة فسوف يقدم استقالته متطوعا».
رغم الإشارة اللافتة فى توقيتها مضى «السادات» فيما انتوى عليه.
استحكمت الظلال على «نيكسون»، الذى استقال جبريا بعد تلك الزيارة فى أغسطس من نفس العام، فيما صعد نجم مهندس سياساته الخارجية «هنرى كيسنجر»، كما توقع «هيكل».
الاستنتاجات الخاطئة بنت الخيارات الخاطئة، وقد دفعت مصر ثمنا فادحا من أدوارها وأوزانها فى لعبة التسوية كما صممها «كيسنجر».
فى حالة مساءلة الرئيس الأمريكى الحالى «دونالد ترامب» لا يوجد أدنى بريق فى السياسة الخارجية الأمريكية يراهن عليه بالخطأ أو بالخطيئة.
البراءة القانونية غير البراءة السياسية، فهو متهم بسوء استخدام السلطة فى فضيحة «أوكرانيا جيت» وعرقلة عمل الكونجرس، بحسب عريضة اتهامات مجلس النواب، الذى يمثل سلطة الادعاء، والاتهامات مصدقة من نصف الرأى العام الأمريكى، حسب استطلاعات الرأى العام.
تعود البراءة المتوقعة إلى الانقسام الفادح بين الحزبين الكبيرين الجمهورى والديمقراطى، وليس إلى موضوع المحاكمة نفسها، وحيث إن الأغلبية جمهورية فى مجلس الشيوخ، الذى يمثل هيئة المحلفين، فالنتائج معروفة سلفا.
ما يعنينا، هنا فى الإقليم، مدى تأثير ما يجرى من انقسام حاد فى المؤسسات الأمريكية على أزمات الإقليم المتفاقمة.
الانقسام المؤسسى تعبير عن انقسام اجتماعى أوسع مدى من شخص «ترامب» وأكثر عمقا من احتمالات استبداله بآخر فى الانتخابات الرئاسية المقبلة.
من موضوعات الانقسام موقع النظر إلى الأقليات والمهاجرين.
وهذه مسألة تؤثر ــ بالضرورة ــ على الجاليات العربية والمسلمة فى المهجر الغربى، فقد كان صعود «ترامب» بخطابه الشعبوى، الذى لا يأبه بأى تنوع دينى أو عرقى أو قيم إنسانية حديثة مستندا إلى كتلة تصويتية بيضاء متعصبة، إيذانا بصعود أوسع لليمين الأوروبى الشعبوى بما شجع على احتمالات تفكيك الاتحاد الأوروبى ورفع معدل التحريض ضد أية جاليات من جنسيات أخرى.
كما أفضى صعوده إلى تفشى الاستهتار بقضية الحريات العامة وحقوق الإنسان، على الأقل لم تعد هناك مراعاة حتى فى الشكل إلى ما يقال عنها «القيم الأمريكية».
الحقيقة التى لا يجب أن نغفلها أن الإقليم الذى نعيش فيه مرشح أكثر من غيره أن يكون ميدانا لكسب النقاط فى عام الانتخابات الأمريكية.
قد يحتاج إلى طوق نجاة شبه مجانى من الشرق الأوسط، أو أن يحظى فى بعض عواصمه باحتفاء كالذى تلقاه «نيكسون»، أو أن يحصد تنازلات يمكن تسويقها للناخب الأمريكى فى عام الانتخابات تسوغ إعادة انتخابه لفترة ثانية بعد الضرر الذى لحقه جراء المساءلة.
يصعب عليه ــ أولا ــ أن يحدث اختراقا سياسيا وعسكريا فى الأزمة السورية، فسياساته متراجعة على مسارحها واللاعبون الآخرون لن يقدموا له هدايا مجانية.
فى أحوال الضعف التى تعترى إدارته من المتوقع أن يضطلع البنتاجون والاستخبارات بأدوار أكبر بالأزمة السورية تتجاوز ما كان يحدث من قبل، كما فى أزمات الإقليم الأخرى.
يصعب عليه ــ ثانيا ــ اختراق الأزمة الإيرانية بإنجاز دبلوماسى، أو عمل عسكرى.
الحرب مستبعدة فى أحوال الإدارة الحالية، فضلا عن أنها ليست من بين خياراته، والتسوية لها اشتراطات وظروف من غير المحتمل توافرها.
من المتوقع ألا يمنحه الإيرانيون أية جوائز بانتظار ما قد تسفر عنه الانتخابات الرئاسية المقبلة، إلا إذا أبدى هو نفسه استعدادا لرفع العقوبات الاقتصادية قبل أى لقاء أو نظير أى لقاء، وهذا بدوره احتمال شبه مستبعد بالنظر إلى أن أى تصرف يتبعه يخضع لرقابة مشددة من خصومه السياسيين.
ويصعب عليه ــ ثالثا ــ ترويض اللاعب التركى الجامح، فالعلاقات معه تتراوح بين إجراءات وقوانين تصدرها المؤسسة التشريعية ومساومات وحسابات تتبعها الإدارة، حتى بدت العلاقة أقرب إلى معضلة يكاد يستحيل فك ألغازها، الأزمة الليبية مثالا.
تتبقى أكثر قضايا الإقليم حساسية ومركزية، التى قد يظن أنها «البطن الرخوة» الضرب عليها مأمون العواقب وحصد النتائج ممكن بقوة الضغوط على عالم عربى مفكك وضعيف.
رغم أن القضية الفلسطينية وصلت إلى طريق مسدود يجعل من تمرير «صفقة القرن» وهما من الأوهام، فلا سلام يتأسس على قوة غاشمة تعطى كل شىء للإسرائيليين ولا شىء للفلسطينيين، إلا أن السوابق قد ترجح التنازل حيث لا يجب أن يكون هناك تنازل.
أخشى ألا نكون مستعدين أمام أى ضغوط محتملة للتنازل عما لا يصح التنازل فيه تحت ظلال مساءلة «ترامب».