بقلم: عبد الله السناوي
بقدر الدور المحورى الذى يلعبه البيت الأبيض فى صراعات القوى والاستراتيجيات والنفوذ والمصالح تكتسب أسراره وخفاياه إثارة سياسية تتجاوز الولايات المتحدة إلى العالم بأسره.
ما يحدث فى البيت الأبيض ليس شأنا خاصا ولا موضوعا اعتياديا فى النميمة السياسية، وما يتكشف من أسرار وخفايا يساعد على كشف مجمل الصورة فى صناعة القرار الأمريكى وما يشوبه أحيانا من مصالح ليست فوق مستوى الشبهات وأهواء شخصية طاغية وعقد بشر مستحكمة.
على التوالى صدر كتابان لـ«جون بولتون» مستشار الأمن القومى السابق و«مارى ترامب» ابنة شقيق الرئيس الأمريكى يدخلان بطبيعة مادتيهما فى أجواء الانتخابات الرئاسية الأمريكية مطلع نوفمبر المقبل.
لا يخفى الطابع الانتقامى فى كلا الكتابين، «بولتون» على خلفية طرده من موقعه الذى طالما تطلع إليه.. و«مارى» على خلفية ما جرى لوالدها من تحطيم مقصود أفضى إلى وفاته مبكرا وحرمانها مع شقيقها من ميراث جدهما.
الأول، حاول أن يرسم صورة مقربة لـ«أقوى رجل فى العالم» بأنه أهوج وجاهل لا يعرف معلومات أساسية فى السياسة الدولية، تحكمه مصالحه الشخصية قبل مصالح بلاده ومستعد أن يفعل أى شىء مقابل تجديد ولايته الرئاسية.
والثانية، حاولت أن ترسم صورة مقربة أخرى لـ«أخطر رجل فى العالم»، مشاحنات وتناقضات عائلته، سماته وخصاله وعقده النفسية التى تتجلى فى التنمر والتكبر والنرجسية المفرطة، شككت فى أهليته للرئاسة ونقلت عن إحدى شقيقاته نعته بـ«الأحمق»، كما وصمته بالاحتيال منذ بداياته الأولى عندما استأجر طالبا متفوقا لكى يؤدى بالنيابة عنه الامتحانات التأهيلية لجامعة «بنسلفانيا».
قبل صدور الكتابين تسابقت الصحف والمواقع الدولية فى استعراض أهم ما فيهما من أسرار وخفايا، وأفلتت أعصاب البيت الأبيض خشية أن تؤدى مادتاهما إلى هز صورة الرئيس قبل موعد الاستحقاق الانتخابى على نحو يصعب ترميمه.
فى الكتابين بدا البيت الأبيض هشا يضرب التحلل السياسى والأخلاقى بنيته على نحو يشبه المسلسل الأمريكى «بيت من ورق»، الذى أنتج فى ستة أجزاء بالفترة بين عامى (2013ــ2018) أى قبل وأثناء ولاية «ترامب» الحالية، التى بدأت عام (2016).
لم يكن المسلسل التلفزيونى متجنيا سياسيا وأخلاقيا على ساكنى البيت الأبيض، إذا ما قورن محتواه الدرامى مع ما جرى نشره بالكتابين المثيرين.
فى المسلسل تبدت صراعات ومؤامرات فى ردهات البيت الأبيض، استبيحت كل الوسائل عنفا ورشى، جرت صدامات لوبيات وشركات كبرى فى إدارة العلاقات الاستراتيجية والاقتصادية مع الدول الكبرى، أو عند تمرير تشريعات، أو قبل اختيار الرئاسات نفسها.
كان صعود الرئيس الافتراضى «فرانك اندروود» للرئاسة تجسيدا للانتهازية السياسية، فكل شىء مباح بلا أدنى محرمات سياسية أو أخلاقية، داس فى طريقه كل الذين وثقوا فيه، وأطاح متآمرا بالرئيس الذى عينه نائبا حتى يحل مكانه سيدا أول فى البيت الأبيض.
بدت شخصية «اندروود» مزيجا من الرؤساء الأمريكيين السابقين «ريتشارد نيكسون» و«بيل كلينتون» و«جورج دبليو بوش» والحالى «دونالد ترامب».
فيه من «نيكسون» قوة شخصيته وقدرته على السيطرة ووسائله، كالتجسس على خصومه السياسيين، وبعض ما جرى له من محاسبة أمام الكونجرس اضطرته للاستقالة طلبا للعفو من نائبه الذى أصبح رئيسا.
وفيه من «كلينتون» شراكة الحكم والنفوذ مع زوجته «هيلارى»، وقد كانت علاقة معقدة لم تخف الزوجة بأى وقت طموحها أن تجلس على مقعد زوجها.
وفيه من «بوش» إثارة الخوف والفزع ودخول الحروب لتأكيد مركزه وإضفاء القوة عليه، وشىء مما جرى فى الانتخابات التى أدت إلى صعوده على حساب المرشح الديمقراطى «آل جور» النائب السابق للرئيس «كلينتون» بفارق بسيط من الأصوات أحاطته تساؤلات وشكوك أن تدخلا ما قد حدث.
وفيه من «ترامب» بعض أسراره العائلية، التى تسربت قبل فترة من ابنة شقيقه نفسها إلى الـ«نيويورك تايمز» واستخدمها النص الدرامى لإلقاء أضواء إضافية من مادة الواقع لما يجرى فى بيت من ورق.
كان والد «فرانك اندروود» عضوا فى جماعة «كوكلوكس كلان» العنصرية البيضاء المتطرفة، حاول ابنه إخفاء الحقيقة حتى لا تؤثر على فرصه السياسية، لكنها عندما داهمته صورها اضطر أن يفسرها بحاجة والده المأزوم ماليا إلى مساعدته لتوفير احتياجات أسرته.
فى حالة «ترامب» يصعب تسويغ مثل هذه الحجة، فوالده رجل مقاولات بالغ الثراء شارك مطلع شبابه، حسبما تروى حفيدته، فى مسيرات للجماعة العنصرية المتطرفة.
الفارق بين «اندروود» و«ترامب»، أو بين الدراما والحقيقة، أن الأول حاول أن يبرر ويتبرأ.. والثانى مضى على الطريق نفسه.
«اندروود» ادعى احترامه لوالده وتأثره بظروفه التى دعته لالتقاط صورة مخجلة وسط جماعة عنصرية، فور صعوده للبيت الأبيض ذهب لزيارة قبره، لكنه عندما ابتعدت الكاميرات احتراما لمشاعره، ارتكب فعلا شنيعا لا يوضع على ورق.
على الجانب الآخر لم يستشعر «ترامب» أى أزمة فى ماضى والده، تبنى الخيارات نفسها دون انضمام لمثل هذه المنظمات التى تعلن تأييدها له، مع ذلك فهو لم يُكن احتراما حقيقيا لوالده الذى فضله على أخوته، وسخر منه عندما أصابه خرف الشيخوخة.
كان مثيرا سياسيا فى مسلسل يعتمد فى مادته على قصص وخفايا وفضائح البيت الأبيض؛ إسناد الرئاسة بعد مقتل الرئيس «فرانك اندروود» إلى نائبته وزوجته «كلير»، كأنه أراد أن يقول ماذا كان يمكن أن تكون عليه أمريكا تحت حكم «هيلارى كلينتون» الطموحة، التى لا تحظى بشعبية حقيقية.
كلتاهما، الحقيقية والمتخيلة، «هيلارى» و«كلير»، رأت فى نفسها جدارة الرئاسة أكثر مما رأتها فى زوجها، لم تكتفيا بدور السيدة الأولى، نازعتا الرئيس صلاحياته، وكلتاهما غفرت لزوجها نزواته مقابل شراكة الحكم.
باستثناء جرعات العنف والجنس الزائدة فإن «بيت من ورق»، الذى توافرت له إمكانات إنتاجية ضخمة، يكاد يجعلك تعتقد حقا أنك فى ردهات البيت الأبيض، أو فى أروقة الكونجرس، وهو يكاد يصنع صورة مقربة ثالثة، تضاهى كتابى «جون بولتون» و«مارى ترامب»، لما يجرى فعلا فى بيت من ورق.