بقلم: عبد الله السناوي
بنص الدستور فهو المسئول الأول عن «ضمان وحماية حرية الصحافة والإعلام.. والحفاظ على استقلالها وحياديتها وتعدديتها وتنوعها»، حسب المادة (211) التى تحدد اختصاصات المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام الذى يترأسه منذ ثلاث سنوات.
إذا لم يكن الأستاذ «مكرم محمد أحمد» مستعدا أن يتحمل نصيبه من مسئولية ما أطلق عليه انتقاصا من حرية الصحافة وتكميما للأفواه، فإن السؤال يصبح طبيعيا: لماذا لم يستقل من منصبه؟.. ولماذا يقبل على تاريخه المهنى، وهو اسم كبير فى عالم الصحافة، أن تنزع اختصاصاته ويظل صامتا قبل أن يخرج على إحدى الفضائيات شاكيا ومتبرما؟
أسوأ مقاربة ممكنة «شخصنة القضية»، فهى تتجاوز الأفراد إلى سلامة أداء المؤسسات العامة وتمكينها من أداء أدوارها الدستورية، سواء بقى فى منصبه أو غادره قريبا كما هو متوقع.
لا أحد يجادل فى عمق أزمة الصحافة المصرية توزيعا وتأثيرا وديونا متراكمة على مؤسساتها القومية من رئيس الجمهورية حتى أصغر مواطن يمشى فى الشارع.
إذا ما تراجعت حرية الصحافة إلى الحد الذى تكلم عنه رئيس المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام، فالمعنى أننا أمام خطر داهم على سلامة البلد وأمنه القومى يستدعى العمل بجدية على ضخ دماء الحياة فى شرايين الصحافة المصرية، التى ترقد فى غرف العناية المركزة دون خطة علاج مقنعة.
لا إصلاح ممكن بلا حرية.
لا يمكن الحديث بجدية عن الالتزام الدستورى الموكل للمجلس الأعلى لتنظيم الإعلام بـ«وضع الضوابط والمعايير اللازمة لضمان التزام الصحافة ووسائل الإعلام بأصول المهنة وأخلاقياتها ومقتضيات الأمن القومى»، إذا كانت اختصاصاته مسلوبة وصلاحياته معطلة ــ كما قال رئيسه أمام ملايين المشاهدين.
أزمة الصحافة المصرية مستفحلة، وبعض الاقتراحات المتداولة فى اجتماعات رسمية أقرب إلى إطلاق رصاص على المؤسسات الصحافية القومية، كـ«خيل الحكومة» الذى لم يعد منها رجاء.
من بين الاقتراحات منع تعيين صحافيين جدد فى المؤسسات القومية، وهو حكم بالإعدام على مستقبل المهنة وفرص تجديدها بالدماء الجديدة.
ومن بين الاقتراحات إلغاء بعض الطبعات الورقية للمؤسسات المتعثرة، كأن القضية تخفيض الكلفة لا تحسين الأداء وإعادة اكتساب ثقة القارئ بمزيد من الحرية والابتكار.
من غير المعقول أن تصدر الصحف القومية والحزبية والخاصة، كأنها طبعة واحدة، مانشيتاتها موحدة ومعالجتها المهنية متشابهة، كأن الفوارق بين المدارس الصحافية محيت فى كتابة العناوين وصياغة الأخبار والتحقيقات والتبويب والإخراج.
لا يوجد ما يميز صحيفة عن أخرى، كما لاحظ الأستاذ «مكرم» عن حق، غاب الابتكار عن مهنة هى بالطبيعة مهنة إبداع وإنتاج أفكار جديدة لتلبية الاحتياجات المتغيرة للقراء.
رغم المواهب الواعدة بين الأجيال الصحافية الجديدة فإن المناخ العام لا يسمح لها أن تعبر عن نفسها، أو أن تجد مكانا فى بلاط من كان يطلق عليها صاحبة الجلالة.
غاب «أسطوات» المهنة مع انحسار المدارس المهنية.
هذا استنتاج آخر صحيح تشاركه فيه أعداد كبيرة من الصحافيين المخضرمين والشبان على السواء.
ما نحتاجه «قدر من حرية التفكير والإبداع»، كما قال فى مصارحته.
«حرية الرأى منقوصة بكل تأكيد»، «نحتاج إلى قدر أكبر من حرية الرأى والتفكير».
كل هذا صحيح، لكنه لم يتطرق إلى مسئوليته هو ولا مهامه هو ولا ما ينتوى فعله للاضطلاع بواجباته الدستورية فى «ضمان وحماية حرية الصحافة والإعلام».
«لابد أن نثق فى الصحافيين المصريين الذين يعرفون أصول المهنة وضوابطها».. «لابد أن نثق فى الرأى العام»، هذا بدوره استنتاج صحيح لا يجوز التشكيك فيه بقدر عراقة مهنة الصحافة فى مصر، وقدر ما يتوفر للرأى العام من وعى يسمح بالاختيار الحر.
فى استنتاجه ما يسنده فى التاريخ الذى صنعته بشجاعتها وتضحياتها أجيال متعاقبة من الصحافيين الكبار.
«عمرنا ما خدنا حاجة بالإذن»، فحرية الصحافة تكتسب بالممارسة والتراكم والتضحيات، «ما نحصل عليه اليوم نوسعه فى اليوم التالى».
من واجبه أمام ضميره أن يتساءل عن حجم الدور الذى لعبه هو؟.. وما الذى يتوجب عليه فعله قرب نهاية الرحلة؟
«الصحافة لابد أن تكون حرة»، «فى حاجة اسمها حرية الرأى والتعبير«ــ كما قال الصحافى المخضرم.
بحكم خبرته الطويلة فهو يدرك مواطن الخلل فى المنظومة الإعلامية ولا يحتاج دروسا من أحد.
أشار إلى ما يعرفه العالم، ويعرفه الصحافيون المصريون دون إخفاء لحقيقة بغلالة أو أخرى، غير أنه يستلفت الانتباه قوله أنه نجح فى إنهاء الفوضى الإعلامية.
ما المقصود بالضبط؟.. هل يدخل التوسع فى حجب المواقع الإخبارية فيما يسميه بمنع الفوضى؟.. ما المعايير الدستورية والقانونية والإعلامية المتعارف عليها دوليا التى استند إليها؟.. وإلى أى حد أفضت تلك السياسة إلى الإساءة إلى سمعة مصر فى عالمها؟
القواعد مسألة أساسية فى إدارة أية منظومة إعلامية حديثة.
مما يستحق المراجعة الطريقة التى يتم على أساسها اختيار القيادات الصحافية والإعلامية.
بنص كلامه فإنها «تتم بالعلاقات العامة».
من أخطر ما قاله فى نقد الأداء الصحافى والإعلامى أن «كل واحد يتصور أن دوره الترويج للرئيس».
«تغطية الرئاسة مهمة لكنها ليست المهمة الوحيدة»، «تثقيف الرأى العام وتثقيف المجتمع ضرورى بالتجديد وليس تجويد المعاد».
فى الكلام خبرات متراكمة لم يفعل شيئا تقريبا من موقعه لوضعها فى التنفيذ بقدر ما تسمح الظروف والأحوال.
من الظلم البين إسناد مسئولية تدهور الإعلام والصحافة المصرية إليه، لكنه لم يقم بواجبه فى الدفاع عن اختصاصاته الدستورية.
«أنا لست مسئولا، السلطة التنفيذية هى المسئولة».
بشىء من المصارحة أشار إلى حرب الاختصاصات مع وزير الدولة للإعلام «أسامة هيكل»، بدا مصدوما أن اختصاصاته تسحب منه، دون أدنى مشاورة ولا إخطار.
صارح مشاهديه بأن هناك «حالة من التربص المتبادل» بما أفضى إلى إفساد الرسالة الإعلامية بأكثر مما هى عليه.
وصف ما يحدث معه بأنه «سطو على الاختصاصات»، وأنه يحدث «تحت السطح».. و«قد جاوز المدى».
إنها مصارحة على حد السكين، فما حقيقتها بالضبط؟.. سحب اختصاصاته بطريقة غير لائقة أم تذكره المتأخر أن هناك قضية تستحق الدفاع عنها اسمها حرية الصحافة؟.. «حتى الصحافة الشمولية يكاد يغيب فيها الرأى الواحد«؟
«لا أريد أن أحرم السلطة التنفيذية من أن يكون لها وزير إعلام»، «لا بد فى النهاية أن تكون مصر فوق الجميع بلا استعلاء على أحد أو استغناء عن أحد».
المرارة غلبت مصارحاته، ما هو خاص يمكن بصورة أو أخرى تجاوزه، وما هو عام يتطلب الحوار حوله دون شخصنة بالجدية اللازمة، فمصر تستحق حرية الصحافة وصحافتها العريقة تستحق رد اعتبارها واكتساب ثقة القراء من جديد.