بقلم: عبد الله السناوي
ما مستقبل السد العالى بعد ستين سنة على وضع حجر أساسه فى (9) يناير (1960)؟
السؤال يكتسب أهميته من المخاطر الماثلة فى مفاوضات سد النهضة الإثيوبى.
حسب بيان لوزارة الموارد المائية والرى المصرية بعد الجولة الأخيرة فى أديس أبابا فإنه «لا توجد إجراءات واضحة من الجانب الإثيوبى تحفظ قدرة السد العالى على مواجهة الآثار المختلفة التى قد تنتج عن ملء وتشغيل سد النهضة، خاصة فى فترة الجفاف، أو إذا امتد الجفاف لعدة سنوات متتابعة».
القضية من أولها لآخرها سياسية لا فنية ولها أصل فى التاريخ، إلى ستين سنة مضت.
عند الشروع فى بناء السد العالى حرضت دوائر غربية إثيوبيا، كما هو معروف وثابت، على بناء مجموعة من السدود داخل أراضيها تتحكم فيما يصل دولتى المصب من مياه النيل وتلغى أثر السد العالى فى نقل مصر إلى عصر جديد.
طرحت أفكار وتصورات ووضعت مشروعات لم يكتب لها أن تنفذ باسم مساعدة إثيوبيا على توليد الطاقة الكهربائية التى تحتاجها بفداحة.
إثيوبيا تستحق التنمية والكهرباء، هذه قضية حقيقية.
بذات القدر فإن مياه النيل بالنسبة إلى مصر مسألة حياة أو موت.
المعادلة واضحة والحلول ممكنة غير أن المشكلة فى أصلها التاريخى أكثر تعقيدا.
إنه الصراع على مصر حجمها ودورها ومستقبلها فى محيطها.
لم يكن السد العالى محض مشروع اقتصادى، أو زراعى، أو صناعى، حتى لو وصف بأنه أكبر مشروع هندسى فى القرن العشرين، فهو يرمز إلى مشروع نهضة، يلخصه لكنه لا يتوقف عنده.
أى مشروع يكتسب قيمته من قدرته على صياغة إرادة التغيير فى مجتمعه بما يتسق مع احتياجاته وفق رؤية للمكان والزمان والإنسان.
أسس السد العالى لعصر التصنيع الثقيل وتمصير الاقتصاد المصرى وبناء قطاع عام قوى وقادر على التنمية والوفاء بمتطلبات الانتقال إلى عصر جديد أكثر عدلا اجتماعيا.
ارتبط بتوليد الكهرباء إلى معدلات غير مسبوقة بحسابات زمانها وزيادة رقعة الأراضى الزراعية مع اتساع الخدمات الصحية والتعليمية.
اكتسب السد العالى رمزيته من ضراوة معاركه واتساع مشروعه.
أكثر ما يسىء لأى مشروع من هذا الحجم النظر إليه كنوع من «التوحيد» الإجبارى وراء فكر واحد.. وزعيم واحد.
المشروع القومى هو مجموعة «القيم الأساسية»، التى تحكم الحركة إلى المستقبل وتمثل المشترك الأعظم بين جميع القوى والاتجاهات السياسية.
المشروع القومى لم يخترعه «عبدالناصر»، فهو لم يخترع الوحدة العربية ولا خلق من فراغ أحلامها وتطلعاتها، وهو لم يخترع مطلب الاستقلال الوطنى والاستعداد للتضحية فى سبيله، لم يؤلف دور مصر فى المنطقة، حيث حقائق الجغرافيا والتاريخ تدعو إليه، ولم يكتشف مقتضيات العدل الاجتماعى.
الأفكار الرئيسية لـ«جمال عبدالناصر» كلها ـ تقريبا ـ كانت موجودة فى الجو السياسى والثقافى العام قبل ثورة يوليو.
حلم السد العالى كان موجودا قبل «يوليو» غير أنه كان مستحيلا تنفيذه دون إرادة قادرة على التحدى وتحمل تكاليفه وأثمانه.
جسارة التحدى أخذت معناها الحقيقى من سياقها فى الصراع على الشرق الأوسط، فقد حاولت مصر بعد ثورة يوليو الخروج من دوائر النفوذ الاستعمارية، قاومت الأحلاف العسكرية وسياسات ملء الفراغ، كسرت احتكار التسليح بصفقة الأسلحة السوفيتية، أيدت حركات التحرير الوطنى فى العالم العربى، دعمت بالإعلام والسياسة والتمويل والسلاح الثورة الجزائرية، ولعبت دورا جوهريا فى تأسيس قوة دولية جديدة، خارج استقطاب الحرب الباردة، للدول المستقلة حديثا فى «باندونج».
بأى نظر موضوعى من المستحيل تماما الشروع فى بناء السد العالى بكل طموحاته الكبرى ما لم تكن مصر مستعدة لدفع أثمان تأميم قناة السويس وامتلاك قرارها الوطنى المستقل.
بالحساب التقليدى فإن تأميم قناة السويس عام (1956) مغامرة بالمصير بعد أسابيع من جلاء آخر جندى بريطانى عن مصر قد تُفضى إلى إعادة احتلالها من جديد، أو إطاحة نظامها بانقلاب يشبه ما تعرض له قبل سنوات قليلة الزعيم الإيرانى الدكتور «محمد مصدق»، بعد تأميمه بترول بلاده.
اكتسبت مصر استقلالها الوطنى الكامل فى حرب السويس بفواتير الدم المبذولة وشجاعة أبنائها الذين هرعوا لحمل السلاح فى مواجهة العدوان الثلاثى، البريطانى ـ الفرنسى ـ الإسرائيلى، لا بـ«اتفاقية الجلاء» التى وقعها «عبدالناصر» نفسه عام (١٩٥٤) وانطوت على تنازلات تتيح للقوات البريطانية حق العودة لقاعدة قناة السويس، إذا ما تعرض بعض حلفائها للخطر.
تبلورت «يوليو»، وتأكدت شرعيتها الثورية فى حرب السويس.
كانت الحرب نقطة الذروة فى الصراع على المنطقة.
بعد تحدى السويس خرجت مصر قوة إقليمية عظمى، وتحولت عاصمتها القاهرة إلى أحد المراكز الدولية، التى لا يمكن تجاهلها.
اكتسبت مصر أدوارها القيادية فى إفريقيا بوضوح سياساتها وقدرتها على المبادرة والإسناد لتحرير القارة، كما اكتسبت أوزانا استثنائية فى عالمها الثالث بإلهام أن دولة نامية واجهت تحديا شبه مستحيل وكسبته.
تجلت فى حرب السويس حسابات عالم ما بعد الحرب العالمية الثانية وحقائق القوة فيه ومدى تأثير الحركات الاستقلالية.
بعد حرب السويس جرى بناء السد العالى، وبنت «يوليو» بقدر ما استطاعت مصانع ومدارس ومستشفيات وعمرت الريف ونهضت بالطبقة الوسطى، انحازت إلى قوى الإنتاج والطبقات الأكثر حرمانا.
المشروعات الكبرى تُقاس بنتائجها السياسية والاجتماعية كما أرقام عوائدها الاقتصادية.
لم يكن تأميم القناة سوى خطوة فى مشروع وجد رمزيته فى السد العالى وامتد أثره إلى كل مناحى تحسين جودة الحياة، وإشاعة العدل الاجتماعى.
هكذا تبلور قبل ستين سنة المشروع المضاد بإنشاء مجموعة من السدود الإثيوبية عند منابع النيل تنتقص من حصة مصر من مياهه وتضع مصيرها تحت مقصلة المقايضات على أدوارها.