بقلم: عبد الله السناوي
أسوأ اقتراب ممكن من شواغل الأجيال الجديدة النظر إليها من فوق وإملاء الأحكام عليها، كأنها تحتاج إلى وصاية.
الوصاية بالادعاء جهل بالتاريخ.
لا يحق لأحد توهم احتكار الحكمة ونفى حق الأجيال الجديدة فى اكتشاف معنى حياتها وتقرير مستقبلها بنفسها.
بالقدر نفسه فإن التاريخ لا يعرف الانقطاع بين ثوراته وتجاربه وأجياله، وأى كلام آخر خطيئة متكاملة الأركان.
فى تاريخ الأجيال المصرية الحديثة حدثت إحباطات وتراجعات، لكنها لم تصل إلى حد إطلاق الرصاص العشوائى على كل ما قبلها ونفى أية صلة بإرث الثورات المصرية، كأنها ولدت فجأة لتبدأ التاريخ من جديد.
التاريخ فعل تراكم، فإذا ما نسف التراكم ارتبكت الخطى وأهدرت المعانى.
أكثر ما يستحق المراجعة اليوم كيفية النظر للتاريخ الوطنى المشترك حتى لا نقع فى فخ القطيعة بين ثورات مصر مرة جديدة.
كان تلك القطيعة أخطر مثالب الحركة الوطنية المصرية على امتداد تجاربها.
تحاملت الحركة الوطنية التى قادها «مصطفى كامل» أوائل القرن العشرين على «أحمد عرابى» والثورة التى قادها وانتهت وقائعها بالاحتلال البريطانى لمصر عام (1882).
جافت ثورة (1919) بزعامة «سعد زغلول» إرث «مصطفى كامل» الذى مهد لها وأمعنت بالوقت نفسه فى إنكار «عرابى».
وبدت ثورة «يوليو» بزعامة «جمال عبدالناصر»، كما لو أنها تنكر أية صلة تجمعها بثورة (1919)، حتى وصلنا إلى تصور أن «يناير» تناهض «يوليو»، رغم أنها أهدافها العامة تكاد تكون طبعة جديدة فى ظروف مختلفة لما طمحت إليه، مع إضافة الحريات السياسية ثغرتها الرئيسية.
أسوأ ما فى القصة كلها إهدار الإرث الوطنى المشترك باختلاف مدارسه وتجاربه، وإهدار خبرة التاريخ نفسه.. وهو أمر انتهى بنا فى نهاية المطاف إلى اعتلال فى الذاكرة الجماعية، حتى كادت تبهت المعانى الاستقلالية الحقيقية التى تراكمت ودفع ثمنها دم.
لا يعنى ذلك إغفال التباينات أو الأخطاء الفادحة التى وقعت، أو التمويه على التناقضات، وإنما وضعها فى إطار موضوعى تتعدد القراءات فيه دون نفى ما هو ثابت من التاريخ بالضرورة من تحولات ومعارك وقيم جرى الدفاع عنها.
لا شىء يولد من فراغ ولا مستقبل يتأسس على فجوات.
اختلاف العصور والأجيال شىء، ونفى أى صلات شىء آخر.
بعد أثمان باهظة استقر فى الوعى العام بدرجة ما تكامل حلقات الوطنية المصرية، وجرى رد اعتبار جميع ثوراتها.
هذا مسار فكرى وسياسى يستحق أن يأخذ مداه.
أفضل تعريف لـ«الناصرية» أنها «المشروع الوطنى المتجدد»، لا نشأت من فراغ ولا اخترعت قيمها وأفكارها الرئيسية.
كانت الديمقراطية ثغرتها الرئيسية، التى أفضت إلى الانقضاض عليها.
بدت «يناير» فى مشاهدها الأولى تطويرا بالتصحيح والإضافة إلى المشروع الوطنى المتجدد، غير أنها لم تتوصل إلى مبتغاها رغم التضحيات التى بذلت.
لم تكن أول ثورة مصرية تنكسر ولا كانت أجيالها أول من أصابهم الإحباط.
جيل الأربعينيات فى القرن الماضى حارب فى قناة السويس ضد معسكرات الاحتلال البريطانى، وتظاهر فى الجامعات والميادين ولوحق وطورد، لكنه لم ينكسر رغم ذلك كله.
تأثر بعصره فى طلب العدل الاجتماعى، ووصلت ريح التغيير إلى حزب الأغلبية وتبنى زعيمه «مصطفى النحاس» «الطليعة الوفدية» بنزعتها اليسارية الصريحة على عكس التوجه العام للحزب.
فى المسافة بين عامى (١٩٤٦) و(١٩٥٢) نضجت تجربة جيل الأربعينيات.
بتلخيص ما فإن ما تأسس فى هذه المسافة من تطلعات ومشروعات وجد طريقه إلى التنفيذ بعد ثورة «يوليو».
بعبارة أخرى فإنها ثورة جيل الأربعينيات.
لحقت هزائم أفدح بجيل السبعينيات، فكل ما حلم به تقوض، وكل ما دفع ثمنه تراجع.
حارب كما لم يحارب جيل آخر على جبهات القتال بعد هزيمة (١٩٦٧) غير أن الجوائز كلها ذهبت إلى غير أصحابها.
صدمته أوسع عملية نهب للمقدرات العامة، بينما إرث «يوليو» فى مخيلته يلهم قواه الحية.
تطلع إلى مصر جديدة تستأنف أدوارها فى محيطها وقارتها فإذا بأدوارها تتهمش وأوراقها تضعها كاملة فى «السلة الأمريكية».
تجرع جيل السبعينيات هزيمة بعد أخرى غير أنه لم ينكسر.
عارض بدأب الرئيس الأسبق «أنور السادات» فى خياراته الرئيسية من الإدارة السياسية لحرب أكتوبر إلى الانفتاح الاقتصادى، وتفكيك القطاع العام، حتى «كامب ديفيد» والصلح المنفرد مع إسرائيل.
كانت انتفاضة «يناير» (١٩٧٧) ثورته الناقصة.
جيل «يناير» يستشعر شيئا مما تعرض له أسلافه من مرارة التراجعات.
مشكلته أن الثورة التى تصدر مشاهدها المهيبة سبقت تجربته، وشعاراتها غلبت مبادئها.
على عكس جيلى الأربعينيات والسبعينيات افتقد إلى أية بنية فكرية تحدد ما يقصده من حرية وعدل اجتماعى، فأصبح ممكنا لكل من يطلب خطف الثورة أن يفعلها بسهولة كاملة.
كأى جيل آخر فهو يحتاج إلى وقت تنضج فيه الأفكار، واكتساب خبرة تساعده على تجنب المطبات.
قصة الجيل الجديد بالكاد بدأت.
بحكم السن فإن (٦٠٪) من المصريين تحت الخامسة والثلاثين.
هذا يستدعى الحوار بندية لا الصدام بقسوة، التفهم لا التعالى، فتح قنوات المستقبل لا إغلاقها.
ارتبطت «يناير» بعصر المعلومات وثورة الاتصالات، ذلك يجعل من شبه المستحيل فصم العلاقة بين الأجيال الجديدة وطلب الدولة الحديثة الديمقراطية والعادلة.
فى أول العرض التاريخى جرى ما يشبه «التقديس» للفعل الثورى شاملا جماعات الشباب، فهم «أفضل جيل فى التاريخ المصرى الحديث»، «لا قبلهم ولا بعدهم».
كان ذلك نفيا لتواصل الحركة الوطنية المصرية جيلا بعد آخر، وتسطيحا فى الوقت نفسه لطبيعة الثورة.
أعقب التقديس تجريم وتشهير، وكان ذلك خطأ أفدح، فـ«يناير» جذر الشرعية الدستورية، ولا توجد شرعيات معلقة فى الفضاء بلا أرض تقف عليها.
كأى ثورة أخرى فى التاريخ فإن «يناير» ليست جملة عابرة تذهب إلى حال سبيلها بالنسيان، أو التجاهل.