بقلم: عبد الله السناوي
فى أوقات الشدة تتأكد الأهمية القصوى للتماسك الواسع، أن يثق المواطنون فى أنفسهم وأنهم قادرون على تجاوز أية أخطار محدقة تتهددهم فى وجودهم.
بتوقيت واحد تتداخل أزمتان كبيرتان فى المشهد المصرى، أزمة تفشى وباء «كورونا» المستجد، التى تضرب العالم بأسره تفزيعا وترويعا، وأزمة «سد النهضة» الإثيوبى بعد أن وصلت مفاوضاته إلى طريق مسدود ينذر بتداعيات يصعب حصر مخاطرها.
فى غضون الثلاثة أشهر المقبلة تتزاحم التحديات على جدول الأعمال، تفرض أولوياتها، وتستدعى مقاربات مختلفة وإعادة نظر فى مجمل الأوضاع والسياسات حتى يتسنى للبلد أن يواجه أزمتيه المتداخلتين، التى لا يمكن تأجيل إحداهما بذريعة مواجهة الأخرى.
اتخاذ ما هو ضرورى من إجراءات احترازية لمواجهة تفشى الوباء أولوية لا شك فيها صونا لصحة وحياة المواطنين وتخفيضا لأية كلفة اقتصادية باهظة متوقعة.
لا تنفى أولوية مواجهة الوباء ضرورة التنبه لخطر داهم قد يقتحم حياة المصريين فى يونيو المقبل إذا بدأت إثيوبيا ملء «سد النهضة» بعمل انفرادى دون اتفاق يحترم القوانين الدولية والوثائق الموقعة وما توصلت إليه مفاوضات واشنطن من تفاهمات شبه نهائية برعاية وزارة الخزانة الأمريكية والبنك الدولى.
ما العمل إذا ما وصلنا إلى هذه النقطة الخطرة؟
إنها مسألة حياة أو موت فى بلد وصفه المؤرخ الإغريقى «هيرودوت» بأنه «هبة النيل»، حضارته وتاريخه وحياة مواطنيه عبر القرون ارتبطت بالنهر، فإذا ما انتقصت حقوقه المائية على نحو فادح، فإن العواقب لا يمكن تحملها وردات الفعل لا يمكن التحكم فيها.
وفق الإرث الفرعونى، فإن من أوجب واجبات من يحكم مصر الحفاظ على مياه النيل.
إنها مسألة شرعية، كما هى مسألة وجود.
تداخل أزمتى «كورونا» والمياه تكاد تقارب القصد المصرى القديم من إطلاق صفة الشدة على سنوات نقص مياه النيل وتفشى المجاعات والأوبئة فى ربوع الوادى.
أحد الأسئلة الجوهرية التى تطرح نفسها الآن بإلحاح على المفاوض المصرى: هل الموقف الإثيوبى استراتيجى أم تكتيكى؟
بصياغة أخرى: هل هو نوع من التعبئة الداخلية قبل الانتخابات المنتظرة أو نوع آخر من المماطلة لتحسين الشروط التفاوضية، أم خيار نهائى يسعى للهيمنة الكاملة على النيل، كما لو أنه يخصها وحدها دون مراعاة للقوانين الدولية، أو أية حقوق للدول المتشاطئة؟
لا يصح القفز إلى الاستخلاصات الأخيرة قبل استيفاء تعقيدات الصورة عبر دبلوماسية نشطة على جميع المحاور، تشرح الموقف موثقا لسير المفاوضات المصرية السودانية الإثيوبية على مدى خمس سنوات وتستجلى ما خلف البيانات المعلنة للأطراف المتداخلة، تصر على «مخرجات واشنطن» آخر نقطة تفاوضية، حتى لا نعود من جديد إلى المربع رقم (1) ونجد أنفسنا أمام السد وقد بدأ ملؤه بلا اتفاق.
الخارجية المصرية تتحرك بهمة لافتة فى هذا الملف أملا فى توفير بيئة عربية وإفريقية ودولية ضاغطة تمنع انفجار الأزمة بما يهدد يقينا السلم والأمن الدوليين.
المشكلة الحقيقية الآن أن الأطراف الفاعلة، التى يمكن أن توفر هذه البيئة الضاغطة منشغلة بأولوية وباء «كورونا» المستجد فى بلدانها.
بدواعى الفزع والخوف من آثار وتبعات الوباء هناك حالة هدنة دولية غير معلنة، تكبل إلى حد كبير الحركة الدبلوماسية، حيث تتراجع الأدوار الدولية لصالح الأوضاع الداخلية.
بحقائق اللحظة الحرجة فإن الحركة الدبلوماسية المصرية تسبح ضد تيار «كورونا»، ذلك يستدعى قوة دفع أكبر حتى يتسنى للعالم ومراكزه الكبرى أن يستشعر خطورة ترك الأزمة تتفاعل وتصل إلى نقطة التفجير، حيث يصعب التحكم فيها عند حد الحياة أو الموت.
بقدر ما تتعرض له مصر الآن من شدة مزدوجة، الوباء المتفشى ونقص المياه المحتمل، فإن حاجتها مضاعفة لاكتساب أكبر قدر ممكن من التماسك الداخلى، خفض الاحتقانات، تنقية الأجواء السلبية، تصحيح صورتها أمام نفسها وعالمها حتى يمكنها التقدم للمستقبل بثقة أيا كانت تحديات اللحظة الحرجة.
تصحيح الصورة من ضرورات اكتساب أوسع تضامن دولى ممكن فيما تتعرض له من مخاطر يؤهلها لاتخاذ ما تراه ضروريا للحفاظ على حقوقها وهيبتها لمنع ملء سد النهضة انفراديا.
بدواعى أزمتى الوباء والمياه تتبدى ضرورات التماسك، لكن: كيف؟.. وبأية وسائل؟
إعادة ترتيب الأولويات وتصحيح السياسات مدخل ضرورى لأى تماسك وطنى لازم حتى يتأكد المواطنون العاديون أن التحديات الماثلة تخصنا جميعا، حياتنا ومصيرنا ومستقبلنا معا.
نحتاج ردم فجوات الثقة بالشفافية واستعادة حرمة الكلمة واحترامها فى الإعلام بتوسيع الحريات والانفتاح على التنوع الطبيعى فى المجتمع واستدعاء كل ما فى البلد من كفاءات ومواهب لتضطلع بواجبها فى الدفاع عن مصيره ومستقبله.
باليقين فإن إخلاء سبيل (15) من الشخصيات العامة والأكاديمية والشابة المحبوسين احتياطيا على ذمة تحقيقات نيابة أمن الدولة العليا خطوة صحيحة تردد صداها الإيجابى على شبكات التواصل الاجتماعى، كما لم يحدث منذ فترة طويلة.
هذه مجرد خطوة على الطريق الصحيح، تستدعى بالضرورة إفراجات أخرى أوسع مدى لرفع أية مظالم، أشار إلى وجودها الرئيس نفسه فى أكثر من حديث، ودرء أية أخطار على حياة المحتجزين فى السجون من تفشى الوباء.
اتساع الأفق السياسى من أصول التماسك الوطنى واستدعاء الهمة العامة فى مواجهة الشدة الماثلة.
لم يكن صحيحا ولا ضروريا ولا لائقا احتجاز أربع أكاديميات ناشطات بينهن الدكتورة «أهداف سويف» وهى أديبة معروفة فى العالم تحتفى بما تكتبه كبريات الصحف البريطانية، بتهمة التظاهر أمام المجلس النيابى للمطالبة بالإفراج عن المحبوسين احتياطيا.
لم تكن هناك مظاهرة بقدر ما كانت احتجاجا وخشية على مصير المحتجزين من ضربات «كورونا» داخل السجون.
أفرجت النيابة العامة عنهن بكفالة، غير أن الأثر السلبى دوى فى العالم، هذا آخر ما تحتاجه مصر الآن فى زمن «كورونا» وشح المياه المحتمل.
فى أوقات الأزمات الكبرى يستدعى المصريون أفضل ما فيهم دفاعا عن وطنهم ومصيرهم المشترك، وعن معنى الحياة نفسها.
هذا وقت التماسك الوطنى، ضروراته ضاغطة وأصوله غير خافية، حتى يمكن للبلد أن يمسك مصيره بيديه.