بقلم: عبد الله السناوي
تحت ركام الانفجار المروع، الذى هز بيروت من أعماقها وقوض كل ما بدا راسخا فى معادلات السياسة والمجتمع، تبدت أشباح ومنزلقات تهدد لبنان بلدا ووجودا قبل أن تحل مئوية تأسيسه فى سبتمبر المقبل.
لم يعد ممكنا تدوير الأزمة وإعادة إنتاج نظام المحاصصة الطائفية، التى استهلكت زمانها ودواعيها وصلاحيتها وباتت عبئا على عصرها وسلامة النظر إلى المستقبل لا يطاق.
هذه حقيقة أولى يصعب تجاوزها بقفزات فى الهواء، كأن ذلك النظام لم تسقط ركائزه وأصابه العفن بالفساد المستشرى فى بنية حكمه.
بذات القدر يصعب على لبنان تجاوز إرثه الطائفى بضغطة على زر، أو بدفقات غضب فى ميدان.
الغضب يؤشر على قرب نهاية طريقة فى الحكم، لكنه لا يؤسس بذاته لجديد قادر على شق طريقه إلى دولة حديثة يحكمها القانون والحقوق المتساوية لمواطنيها ويخضع الترقى فيها لاعتبارات الكفاءة، لا بالانتساب إلى محصصات الطوائف.
هذه حقيقة ثانية، فالطرق ليست سالكة، كل خطوة ملغمة وكل سيناريو مطعون عليه بالتجاذبات الداخلية المستعرة، أو بموازين القوى والمصالح المتناقضة بين أطراف إقليمية ودولية متداخلة.
إذا ما جرت تسوية ما، بضغوط وتفاهمات دولية وإقليمية، على ما جرت العادة طوال التاريخ اللبنانى الحديث، فإنها عودة للمربع الأول وإعادة إنتاج للأزمة لا حلا لها.
بيروت المكلومة تحتاج إلى التقاط أنفاس ولملمة جراح حتى تتدبر خطواتها المقبلة، غير أن ذلك فى الأوضاع الجارية يبدو عسيرا باتساع فجوات عدم الثقة بين الأطراف الداخلية المتناحرة، التى يرى بعضها بتحريض خارجى أن الوقت حان لتصفية الحسابات المتراكمة.
لم يكن «حسن دياب» رئيس الحكومة المستقيلة مشكلة لبنان الأساسية حتى تكون مغادرته للسلطة المفترضة مخرجا يساعد على تهدئة الخواطر ولملمة الجراح، فالأزمة أكبر منه، وأكبر من المنظومة السياسية التى تحكم البلد، التى بدت منكشفة وعاجزة عن تلبية أبسط احتياجات مواطنيها فى العيش الكريم والعيش بأمان.
حاول أن يقترب فى خطاب استقالته من طبيعة الأزمة، لمس أوتارها ولم يستكمل جملته الموسيقية، كأنها نغمة شاردة حينما قال: «إن منظومة الفساد أقوى من الدولة» و«الطبقة السياسية أقوى من الحكومة».
ألمح دون أن يصرح بمقصده حتى لا يجد نفسه مجددا فى «عش دبابير» لا تؤمن لدغاتها.
لا يمكن بالادعاء إسباغ صفة النجاح على حكومته، ولا إحالة إخفاقاته بالنكاية إلى آخرين، لكنه لا يتحمل المسئولية وحده ولا يعفى منها أسلافه، الذين أهدرت حكوماتهم المال العام حتى وصل البلد إلى حافة إفلاس وغضت الطرف عن مخزون نترات الأمنيوم فى مرفأ بيروت دون إجراءات صيانة تمنع ما حدث من انفجار شرد نحو ربع سكانها.
هناك بديلان ماثلان الآن فى المشهد اللبنانى المأزوم.
الأول – البحث عن «حسن دياب» آخر لتشكيل حكومة «اختصاصين»، أو «أصحاب كفاءات» جديدة.
هذا بديل مطعون عليه مسبقا فى المساجلات الداخلية المستعرة بأنه يمثل لونا سياسيا واحدا يلغى بقية الألوان والمكونات، كما أنه يستفز أطرافا دولية وإقليمية تشترط تشكيل حكومة كفؤة وشفافة وفق المعايير التى تعتمدها مصالحها واستراتيجيتها مقابل الانخراط فى جهود إنقاذ الاقتصاد العليل.
والثانى – إسناد رئاسة الحكومة إلى «سعد الحريرى»، أو إلى أى رجل آخر من داخل فريقه السياسى بما يمثله من امتدادات إقليمية ودولية لا يستهان بقدرتها المالية على المساندة الاقتصادية مقابل نصيب أكبر فى القرار السياسى وتحجيم حضور خصومها السياسيين فى معادلات السلطة.
هذا بديل مطعون عليه بدوره من الجانب الآخر فى الصراع المحتدم، إذ يصعب عليه إلى حدود تشبه الاستحالة إخلاء مواقعه بالضغوط الإقليمية والدولية، كما يصعب على القوة الضاربة فى الحراك الشعبى تقبل العودة إلى الوصفات القديمة وفق اتفاق الطائف، التى يطلق عليها «الديمقراطية التوافقية»، فمثل هذا النوع من الديمقراطية كان الباب الملكى لتقاسم النفوذ والمصالح واستشراء الفساد المنهجى بالمحاصصة.
الافتراض المرجح أن تستهلك مشاورات ومداولات وضغوطات تشكيل حكومة جديدة وقتا طويلا نسبيا لا يحتمله لبنان الجريح تحت وطأة أزماته المتراكمة والمستجدة.
لبنان يحتاج إلى تجديد فى دماء طبقته السياسية، التى ضربها العفن وفقدت ثقة مجتمعها، لكن ذلك يحتاج إلى قانون انتخابى جديد يتسق مع تطلعات دولة جديدة تنسخ مائة عام كاملة منذ إعلان الجنرال الفرنسى «هنرى جوزيف غورو»، «لبنان الكبير» وفرض الانتداب عليه وفق اتفاقية «سايكس – بيكو» عام (1916).
لبنان الجديد هو لبنان الحر المستقل الذى يصنع مستقبله ومصيره أبناؤه على قواعد الدول الحديثة، لا الذى يستدعى باليأس المستعمرين القدامى لفرض الانتداب والوصاية من جديد.
هذا جوهر ما يطالب به الحراك الشعبى، لكن قضيته العادلة لا تسندها وسائل متماسكة.
بعد استقالة حكومة «حسن دياب» ارتفعت أصوات مسموعة تطالب باستقالتين آخرتين لرئاسة الدولة ومجلس النواب.
لا تكفى أن تتسق المطالب مع قدر الغضب، فمما هو لازم وضرورى تدبر العواقب والتداعيات.
الفراغ السياسى لا يؤسس لانتقال ديمقراطى وتغيير فى قواعد اللعبة.
لبنان يحتاج إلى خريطة طريق، إذا لم يجترحها بنفسه يصعب أن يضعها له اللاعبون الإقليميون والدوليون، الذين تحكمهم مصالحهم قبل وبعد كل شىء آخر.
السؤال الجوهرى الذى يعترض لبنان الآن: كيف يجرى الانتقال من عصر إلى عصر ومن نظام إلى آخر؟
خيار الدولة الحديثة التى تنسخ المحاصصات الطائفية خيار إجبارى بلا بديل أو شبه بديل.
إذا لم يحدث ذلك فسوف يدخل البلد فى فوضى ضاربة تنال من كل دور أكسب بيروت قيمتها فى عالمها العربى، وتسحب من كل رصيد أية آمال فى تماسك البلد من جديد على أسس حديثة.
الأفدح أن أشباح حرب أهلية جديدة قد تمثل فى المكان بالضغوط والتحريض السياسى والإعلامى.
أرجو ألا ينسى أحد أن التحريض الإسرائيلى الزائد لأطراف لبنانية على الفلسطينيين أفضى إلى مجازر دموية وقتل على الهوية واحتلال بيروت نفسها عام (1982).
حتى هذه اللحظة السلم الأهلى ليس مهددا، ولا لبنان يحتمل هذا السيناريو المرعب، لكن التحريض بغير تعقل بداعى تصفية الحسابات يمكن أن يفضى إلى أشد الكوابيس قتامة.
بين عصرين ونظامين، أولهما أصابه التحلل بالعفن والآخر لم تتضح توافقاته وإجراءاته يقف لبنان عند مفترق طرق، أن يكون أو لا يكون.
هذه مسئولية مواطنيه قبل أية أطراف أخرى.