بقلم: عبد الله السناوي
بالكاد بدأت أوروبا تأمل أن تكون ضربات الوباء وصلت ذروتها.
أخذت تخفف إجراءات الحظر خشية انهيار اقتصاداتها دون أن يكون مؤكدا زوال الكابوس بوقت قريب.
الجروح نالت كل موضع فى القارة العجوز، غير أنها تبدو غائرة فى إيطاليا وإسبانيا أكثر من الدول الأوروبية الأخرى.
فى هاتين الدولتين بلغ الانكشاف أمام الوباء حدوده القصوى والشعور الجماعى بالعزلة مداه المريع.
ما قد يحدث غدا فى أوروبا بعد أن تنقضى الجائحة يتوقف بصورة رئيسية على تفاعلات السياسة والمجتمع فى الدول الأفدح تضررا من الوباء والأكثر شعورا بالخذلان من الحلفاء المفترضين.
بحسابات الوزن المالى فإن الصدارة ألمانية، وقد مكنتها منظومتها الصحية المتقدمة من أن تسيطر نسبيا على الوباء.
وبحسابات الوزن الدبلوماسى فإن فرنسا هى المايسترو السياسى للاتحاد الأوروبى، التى تحيط مستقبله تساؤلات وشكوك.
وبحسابات الوزن التاريخى فإنه لا يمكن تجاهل الدور البريطانى فى مستقبل القارة، بغض النظر عن خروجها من الاتحاد الأوروبى.
هذه حقائق قوى وأوزان فى أى صياغة سياسية أوروبية متوقعة بعد «كورونا»، غير أن المستقبل قد يصنع فى مركزى الجرح قبل مراكز المال والنفوذ.
الأطراف الكبرى الفاعلة سوف تجد نفسها مشدودة بالتفاعل وردات الفعل على ما يحدث فى إيطاليا وإسبانيا.
ما هو عميق وغائر فى تفاعلات البلدين الجريحين سوف يلقى بظلاله الكثيفة على مستقبل الاتحاد الأوروبى، الذى بدا شبه عاجزا أمام ضربات الوباء، وعلى حلف «الناتو» المنظومة الدفاعية الغربية المشتركة، الذى غاب حضوره، وعلى طبيعة العلاقات مع الولايات المتحدة، التى لم تمد يد العون فى وقت محنة مرعبة.
من مفارقات التواريخ أن تتزامن ذكرى مرور (75) سنة على اندحار الفاشية وسقوط حكم «بينيتو موسولينى» فى إيطاليا، التى أسست لأوضاع ومعادلات ما بعد الحرب العالمية الثانية، مع أوضاع ومعادلات أخرى تلوح فى أفق ما بعد انقضاء «كورونا».
عند نهاية الحرب الباردة صعد إلى السلطة «سيلفو برلسكونى»، وقد دأب المثقفون والصحفيون على التبرؤ منه واعتباره عارا على إيطاليا، بما دعانى إلى أن أسأل من الذى انتخبه إذن؟!
كانت إجابة الصحفية الإيطالية «باربرا اليجيرو» مثيرة للاستغراب: «أمى»!
أخذت تشرح أسبابها، فوالدتها ممثلة مسرح شهيرة، كانت تنتمى للحزب الشيوعى الإيطالى، متأثرة بأفكار «تولياتى» و«جرامشى» و«برلينجوير»، وكانت هذه الأفكار تنحو إلى تأسيس شيوعية أوروبية، وكان الحزب يتمتع بتأييد يقارب نصف الشعب الإيطالى، وسعت الولايات المتحدة طوال سنوات الحرب الباردة إلى منعه من الوصول إلى سدة الحكم أو حتى المشاركة فيه.
عندما انهار الاتحاد السوفييتى حدث نوع من الانهيار فى الحزب وأخذ ينشق ويتآكل من الداخل، رغم أنه لم يكن صدى لما كان يحدث فى موسكو، لكن الزلزال ضربه وانتقص من وزنه ودوره وأفكاره وأدى ذلك بتداعياته إلى تحطيم نصف الثقافة السياسية المعاصرة للشعب الإيطالى بطريقة دراماتيكية مفاجئة.
لم يمض وقت طويل حتى انهار النصف الآخر من الثقافة السياسية، نال الانهيار هذه المرة بقضايا فساد النخبة الديمقراطية المسيحية والاشتراكية التى توالت على الحكم فى سنوات ما بعد الحرب العالمية الثانية.
مع تفريغ الحياة السياسية تمكن الملياردير «برلسكونى» ــ عبر المال السياسى والتحكم فى شبكات تلفزيونية وبمساندة من عصابات المافيا ــ من الإمساك بالمقادير الإيطالية، مؤيدا من قطاعات شعبية يائسة كممثلة المسرح الشيوعية السابقة.
فى وقت لاحق ارتفع منسوب الأحزاب الشعبوية وحضورها فى معادلات الحكم، لأول مرة منذ سقوط «موسولينى».
بعد انقضاء «كورونا» قد يجد المسرح السياسى المرتبك نفسه مشدودا إلى اتجاهين متناقضين، أحدهما ــ شعبوى يمينى يعادى اللاجئين ويسعى للانفصال عن الاتحاد الأوروبى والآخر ــ يسارى جديد يدعم اطروحاته بما كشفت عنه المحنة من عوار طبى واجتماعى فادح، ينتقد بيروقراطية الاتحاد الأوروبى لكنه لا يستعجل الخروج منه.
التناقض السياسى نفسه سوف يجد طريقه إلى دول القارة الأخرى، وإسبانيا قبل غيرها.
كان من رأى الأستاذ «محمد حسنين هيكل» فى حوار بيننا أن إسبانيا هى البوتقة التى تتصارع فيها الأيديولوجيات والمعمل الذى تتفاعل بداخله الأفكار.
العالم كله تصادم على مسارحها بالأفكار والعقائد والسلاح على مدى ثلاث سنوات استبقت الحرب العالمية الثانية.
بتعبير الشاعر الإنجليزى الكبير «ستيفن سبندر»: «أحسست أثناء الحرب الأهلية فى إسبانيا أن صراعنا اختلاف كتب».
فى صدامات الأفكار والأيدولوجيات أنشد الشاعر الإسبانى الأكبر «لوركا» للمستقبل وكتب الأديب الفرنسى «أندريه مالرو» روايته ذائعة الصيت «الأمل» وتملك المعنى نفسه الروائى الأمريكى «أرنست همنجواى» وقامات أدبية أخرى من ذات المستوى الرفيع غير أن كل شىء تحطم تحت الأقدام الغليظة لحكم الجنرال «فرانشسكو فرانكو»، تبددت الأحلام الكبرى وقبعت الكوابيس فى المخيلة العامة.
كوابيس «كورونا» تكاد تضاهى كوابيس الحرب الأهلية الإسبانية بما قد تخلفه من أرقام ضحايا ومشاعر فزع، لكن الأمل الذى لاح بين خرائب الحرب الأهلية يصعب أن تتوافر مقوماته بين خرائب «كورونا».
التفاعلات سوف تأخذ وقتها حتى تستبين ملامح أمل جديد.
شىء من ذلك حدث بعد رحيل «فرانكو» منتصف السبعينيات من القرن الماضى.
لم تكن تجربة الانتقال إلى الديمقراطية نزهة خلوية، شابتها مصاعب وتخللتها صراعات وتبدت فى المشهد الانتقالى انقلابات عسكرية محتملة حاولت أن تعود بإسبانيا إلى زمن «فرانكو».
فى نهاية المطاف نجحت إسبانيا فى إجراء أوسع مصالحات ممكنة طبق قواعد العدالة الانتقالية وصاغت قواعد دستورية ملزمة.
كانت القضية الأهم فى التجربة الإسبانية مدى كفاءة إدارة التوازنات المعقدة بعد تحديد الأهداف ووضوح الرؤى، فقد قمعت بقوة السلاح الديمقراطية ووسائلها وصودرت الاشتراكية وأهدافها وجمدت السياسة طوال أربعين سنة متصلة من حكم «فرانكو».
لم يكن الخروج من الجمود الطويل سهلا، ورغم فاشية «فرانكو» فإن سياساته وفرت خططا للتصنيع والخدمات غيرت من التركيب الطبقى بما ساعد تاليا على توفير بنية اجتماعية قادرة على مسئولية التحول إلى الديمقراطية.
قبل «كورونا» تبدى مشروع انقلاب فى المعادلة السياسية التى حكمت إسبانيا بعد استعادة الديمقراطية تمثل فى توجهين متناقضين، أحدهما يسارى جديد والآخر يمينى شعبوى.
كلاهما طرح نفسه بديلا عن الحزبيين التاريخيين «الاشتراكى» و«الشعبى المحافظ» اللذين يحتكران معادلة الحكم والمعارضة وينتميان إلى إرث الحرب الأهلية.
الاستقطاب السياسى فى إسبانيا مرشح للتفاقم بعد أن تنقضى الجائحة وتحصى الخسائر البشرية والاقتصادية.
إذا كانت إيطاليا روح أوروبا ومركز حضارتها ونهضتها الحديثة فإن إسبانيا أقرب إلى مرآة لما قد يحدث فى العالم بأسره.
لا بوسع أوروبا أن تغض الطرف عما يحدث فى مركزها الحضارى، أو أن تتجاهل ما يحدث فى المرآة الإسبانية، فالمستقبل يمر عبر هاتين الدولتين إجباريا.