بقلم: عبد الله السناوي
تصعب العودة إلى «الحياة الطبيعية» بعد انقضاء جائحة «كورونا»، كأن شيئا لم يحدث.
لا أنماط التفكير وأساليب الحياة والإنتاج والعمل سوف تبقى على ما كانت عليه ولا الأفكار والسياسات والأولويات سوف تظل على حالها.
فى غضون عامين على أقصى تقدير سوف يجد العالم نفسه أمام تغييرات شبه جراحية فى موازين القوى الدولية وقواعد الاشتباك وتفاعلات عميقة وانفجارات محتملة هنا وهناك، بأثر تداعيات المحنة الصحية وما كشفته من عوار فادح.
إذا لم نبادر بالمراجعة الاستباقية لمواطن الخلل بالتصحيح والتصويب وسد الثغرات فإن الحقائق الجديدة سوف تداهمنا بتحدياتها وزلازلها.
فى بلد كمصر يعانى وطأة أزمتين وجوديتين، المياه والإرهاب، فإن عبء ما بعد «كورونا» مضاعف وثقيل.
الأولى، تقترب استحقاقاتها الخطرة فى يوليو المقبل إذا ما أقدمت إثيوبيا على ملء «سد النهضة» بلا اتفاق مع دولتى المصب مصر والسودان.
الثانية، تطل برأسها من وقت لآخر، تستثمر فى الأزمات وتعمل على هز ثقة المجتمع فى نفسه وقدرته على التغلب عليها.
كان مثيرا للالتفات أن العملية الإرهابية، التى استهدفت مدرعة عسكرية جنوبى بئر العبد، وأسقطت شهداء ومصابين، رافقت الإعلان عن أول إصابة بوباء «كورونا» المستجد فى شمال سيناء.
إذا ما استشرت الجائحة فى شمال سيناء فمن غير المستبعد زيادة منسوب العمليات الإرهابية، وإذا ما تفاقمت أزمة المياه فإن الاستثمار فيها بالعنف والإرهاب محتمل ووارد.
ذلك يستدعى أن ينهض البلد كله، بكل طاقاته وقدراته، لمواجهة أية صعاب، مهما بلغت ضراوتها، وتذليل أية أزمات، مهما استحكمت حلقاتها.
فى اللحظة الحالية هناك مساران لأى إسهام جدى فى حمل العبء المشترك.
المسار الأول – تحفظى ينظر فى أزمة «كورونا»، حجمها وفواتيرها البشرية والصحية الباهظة، كفاءة المواجهة الصحية وخطط تخفيف قيود الحظر.
بقدر الانفتاح على الكفاءات والخبرات الطبية والعلمية والاقتصادية فى البلد والاستماع إلى أية ملاحظات على الأداء العام دون حساسية طالما أن المصلحة العامة داعى أى اجتهاد طبى أو اقتصادى، يمكن استدراك أية أخطاء تقديرية قبل أن تفضى إلى عواقب وخيمة.
السؤال الرئيسى فى مصر الآن ومعدلات الإصابات والوفيات فى ارتفاع مطرد: هل من الحكمة التعجل بالعودة إلى الحياة الطبيعية قبل السيطرة على الوباء؟
هناك ضرورات اقتصادية لا شك فيها وموازنات اضطرارية لضمان استمرار حركة الحياة، غير أن الكلمة الأولى والأخيرة للعلم والطب وليس لضغوط بعض رجال الأعمال.
أيا ما كانت درجة كفاءة المجموعة الاقتصادية الوزارية فإنها فى حاجة إلى أن تستعين بآراء أساتذة وخبراء الاقتصاد فى البلد، حتى تطمئن إلى أن ما تتخذه من إجراءات أقرب إلى الصحة وليست لها آثار سلبية تنعكس على المجتمع وسلامته.
إذا ما تحسن الأداء العام وجرى الانفتاح على العلم ورد اعتبار الأطقم الطبية وترميم العلاقة بين وزارة الصحة ونقابة الأطباء، وبين نقابة الأطباء والسلطات الأمنية التى توترت إثر حادث اعتداء من أمناء شرطة على أطباء أثناء تأدية عملهم، فإننا نكون قد قطعنا خطوات ملموسة تساعد على التماسك الداخلى فى أوقات شدة.
المسار الثانى – استباقى ينظر فى المتغيرات الدولية والإقليمية المحتملة، مصادر الخطر على الأمن القومى كما الفرص المتاحة، وفى الخيارات والتصورات والأفكار والسياسات والأولويات.
تحت ضربات الوباء تأكدت أهمية دور الدولة فى مواجهته وأولويات الصحة والتعليم وضرورات التقنيات الحديثة، كما تبدت حالة إفلاس معلنة للرأسماليات المتوحشة والعولمة فى شقها الاقتصادى.
ما الذى يجب علينا أن نؤكد عليه، وما الذى يتوجب أن نراجعه؟
بأية معايير ووفق أية اعتبارات؟
هذا كله موضوع حوار لا بد أن يشمل أهل الاختصاص من جميع المدارس الوطنية وأن يكون الرأى العام حاضرا فيه بالمشاركة والمتابعة.
الانفتاح على التنوع الطبيعى فى المجتمع يقتضى انفتاحا إعلاميا، وهذه نقطة ضعف لا يشك فيها أحد من رئيس الجمهورية حتى أصغر مواطن.
دعونا ننظر فى المرآة لنرى الحقيقة كما هى قبل التطلع إلى أى تصحيح وتصويب واجب قبل أن تداهمنا عوالم ما بعد «كورونا».
الحياة السياسية شبه مجمدة، وهناك نزعتان متضاربتان بشأن مشروع قانون جديد للانتخابات البرلمانية، إحداهما تتبنى تحريك الحياة السياسية بما يضخ دماء جديدة فى شرعية النظام، والأخرى تعمل على إنتاج حزب سلطة جديد ونسخة مماثلة للمجلس النيابى الحالى.
إذا تغلبت الأولى فإن الحوار ممكن وإذا سادت الثانية فالنتائج معروفة سلفا.
المجتمع المدنى واستقلال القضاء واستقلال الجامعات والحريات والحقوق المنصوص عليها فى الدستور عناوين كبرى تستحق التوقف عندها بالنقد والتصحيح، فالجور عليها عدوان صريح على الشرعية.
قبل ذلك كله فإن قضايا العدالة الاجتماعية والتنمية وعدالة توزيع الأعباء لها الأولوية الشعبية تحت ضغط الأنين الاجتماعى والأمل المراوغ فى تحسين مستويات معيشة الطبقات الفقيرة.
لا يمكن لعاقل واحد أن يتوقع الانتقال من حال لحال فى يوم وليلة، أو أن نتحول بضغطة زر إلى دولة مؤسسات وقانون وتداول سلطة.
كل شىء يحتاج إلى وقت وإرادة سياسية مشتركة، إذا لم توجد مثل هذه الإرادة فإن الأخطار سوف تداهم البلد بأقسى من أى توقع.
فكرة المراجعة الاستباقية ربما يجرى تجاهلها بذريعة أو أخرى، بوهم أو آخر، باليأس المفرط أو التهوين المفرط، لكن الواجب الوطنى يقتضى طرحها.
النقاش العام ضرورى والتماسك الوطنى ضرورى فى مواجهة أية أخطار وتحديات قد تداهم البلد قبل وبعد انقضاء وباء «كورونا»، غير أنه لن يكتسب صدقيته واحترامه إلا بعد تحسين البيئة السياسية العامة شبه المسمومة بإجراءات ملموسة ترفع منسوب الثقة العامة فى أى مشاركة تتطلبها الأعباء الثقيلة.
فى (20) مارس الماضى أقدمت السلطات العامة على إخلاء سبيل (15) شخصية عامة أكاديمية وشابة، لاقت الخطوة ترحيبا إجماعيا وأملا فى أن تتبعها إفراجات أخرى عمن لم تتلوث أياديهم بالدماء ولا حرضوا على عنف وإرهاب، غير أن ذلك لم يحدث، وتعطلت إجراءاته لأسباب غير معروفة.
الإفراج عن دفعات جديدة لا يمثل بذاته حلا للأزمات المستعصية، لكنه مدخل لا بد منه لتحسين البيئة العامة حتى يصبح ممكنا الحديث بجدية عن التماسك الوطنى وضروراته فى أوقات شدة.