بقلم: عبد الله السناوي
فى لحظة كاد يتلخص الجدل العام فى مصر بأزمة واحدة بدت بموضوعها وأطرافها لا تستحق درجة الاهتمام التى أوليت لها ومدى الانقسام حولها والصخب الإعلامى الذى صاحبها.
خلف الضجيج طرحت تساؤلات قلقة عن حقيقة أزمة «أغانى المهرجانات»، ما هو مصطنع فيها وما هو كاشف لأحوال غاطسة فى المجتمع المصرى.
بدأت الأزمة بتصرفين متضادين، أحدهما متفلت والآخر متسرع.
ما هو متفلت أن ينقل عبر الشاشات التلفزيونية إلى البيوت أغنية تحمل اسم «بنت الجيران»، تضمنت كلمات غير مستساغة تهدد بـ«شرب خمور وحشيش» فى مسائل الحب والهجران.
وما هو متسرع ما أصدرته نقابة الموسيقيين من منع نهائى لكل مطربى المهرجانات يلزم المنشآت السياحية والبواخر النيلية والملاهى والكافيهات دون تبصر بمجافاة القرار المطلق لأية قيم دستورية وقانونية، فضلا عن أنه ليس حلا بقدر انتشار هذا النوع من الغناء على شبكات التواصل الاجتماعى، حتى إن الأغنية موضوع الأزمة تجاوزت أكثر من (70) مليون استماع.
وجه التفلت يستحق وقفة ووجه التسرع يتطلب مراجعة.
لماذا انتشر هذا النوع من الغناء؟
ببساطة لأنه يخاطب بؤس الحياة اليومية والمشاعر المكبوتة بنوع من صخب الإيقاعات، كأنها مهرجان، ونوع من الرقص، كأنه حفل «زار»، ونوع من الكلمات، كأنها مواساة جماعية.
إنه الفن النقيض، شىء من التمرد، حتى لو كان عشوائيا، على الحرمان الاجتماعى والإنسانى والفراغ السياسى والثقافى.
لا تكتسى أسماء مطربيه أية رومانسية معتادة للمطربين العاطفيين، فهم «حسن شاكوش» صاحب أغنية الأزمة، و«حمو بيكا»، و«كزبرة»، و«حنجرة»، إلى آخر قائمة الأسماء الغريبة.
بصورة ما فإن أسماءهم تشبه البيئات الفقيرة والعشوائية التى خرجوا منها وحاولوا التعبير عنها على طريقتهم.
هذا النوع من الغناء وجد طريقه إلى الطبقات الأعلى، التى تحوز الثروة والنفوذ والمكانة الاجتماعية!
كان ذلك دليلا إضافيا على حجم الفراغ الفنى والثقافى فى البلد، رغم المواهب التى تعلن عن نفسها من وقت لآخر ولا تجد الرعاية الواجبة.
السؤال هنا: هل بوسع عقلية المنع والمصادرة أن تلغى احتياجات قطاعات واسعة من المواطنين عجز الغناء التقليدى، الذى يدعى رقيه، عن تلبيتها؟
بتعبير «ابن خلدون» فى مقدمته: «أول ما ينهار فى العمران هو صناعة الغناء».
المعنى أننا أمام أزمة حضارية لا يصلح معها إصدار أوامر إدارية بلا أثر عملى كبير بالمنع والحجب والمصادرة.
فكرة المنع نفسها مستحيلة فى عصر وسائل التواصل الاجتماعى والعوالم المفتوحة.
الأخطر أننا نكاد ألا نعرف المجتمع الذى نعيش فيه، كيف يفكر؟.. ما أحلامه وهواجسه؟.. ما الذى يطربه ويسرى عنه؟.. تفاجئنا بعض الظواهر، كأنها ولدت من عدم فيما هى كامنة فى المجتمع العميق.
فى الفراغ السياسى والثقافى، كما فى نقص البحوث الاجتماعية، يتبدى كل شىء مفاجئا وصادما.
إذا أردنا أن نواجه أنفسنا بالحقائق فإننا أمام حالة انكشاف له أسبابه وجذوره، غياب أى مشروع ثقافى وراء تفاقم الأزمة.
قد تنطبق صفة المثقف على مواطنين بسطاء يقرأون ويتابعون الشأن الحالى، يتفاعلون مع حركة الفكر بقدر ما يستطيعون، يتذوقون الفنون، ولديهم إحساس بالجمال بقدر ما تسمح ظروفهم.
الثقافة ليست حكرا على المتعلمين وحدهم وتذوق الفنون مسألة تعود وبيئة عامة، فإذا ما تسممت تتفشى التراجعات فى ذائقة المجتمع.
الذائقة العامة ترتبط بحركة المجتمع، تحولاته وحروبه وثوراته وإحباطاته وهزائمه.
فى ظروف ما تنشأ ظواهر بعينها وفى ظروف أخرى تنحسر.
بعد ثورة (1919) جرى التلاعب بالدستور والحكومات وحرمان «الوفد»، حزب الأغلبية الشعبية بلا منازع، من حقه فى الحكم باستثناء مرات معدودة، لكن آثارها فى حركة المجتمع والاقتصاد والثقافة والفنون والتعليم جعلت مصر أكثر ثقة فى نفسها ومستقبلها.
هكذا نشأت حركة فنية وثقافية وبرزت أسماء كبيرة ألهمت العالم العربى كله فى جميع مجالات الفكر والأدب.
وفى تجربة ثورة «يوليو» ازدهرت حركة الترجمة لإتاحة ما ينشر من فكر حديث فى الغرب أمام القارئ بأرخص الأسعار.
أنشئت أكاديمية الفنون بالهرم وأرسلت بعثات إلى عواصم أوروبية، خاصة موسكو، لتعلم الموسيقى الكلاسيكية وفن الباليه والمسرح.
انتشرت قصور الثقافة فى كل المدن، كأنها تلاحق التوسع فى إنشاء المدارس والمستشفيات العامة.
نهضت حركة الفن التشكيلية ورد اعتبار الغناء الشعبى على يد «زكريا الحجاوى».
وكان صعود فن الرقص الشعبى فى تجربتى «فرقة رضا» و«الفرقة القومية للفنون الشعبية» علامة على نوع التجديد الثقافى، الذى زاوج بين الفنون الحديثة والفنون الشعبية.
أهم ما انطوت عليه النهضة الثقافية فى الستينيات من القرن الماضى إتاحة حرية النقد والاختلاف.
لا إبداع يتأسس على تعليمات بما يكتب أو لا يكتب.
كانت تلك مفارقة، حيث سمح فى الإبداع القصصى والمسرحى بما لم يكن مسموحا به على صفحات الجرائد وشاشات التلفزيون من نقد.
نشرت رواية «نجيب محفوظ» «أولاد حارتنا» كاملة على صفحات «الأهرام»، رغم الزوابع التى أثارتها.
ونشرت فى وقته وحينه روايات أخرى له انتقدت دون مواربة أوجه خلل عديدة فى النظام الناصرى.
سمح بعرض الشريط السينمائى «شىء من الخوف» عن رواية بالاسم نفسه لـ«ثروت أباظة»، رغم الاعتراضات الرقابية التى تصورت أن «فؤادة» هى مصر و«عتريس» هو «عبدالناصر» وأن الزواج بينهما باطل.
لم يوافق «عبدالناصر» على الاعتراضات الرقابية فـ«نحن لسنا عصابة وإذا كنا كذلك لا نستحق أن نحكم أو نبقى».
حدثت مضايقات متكررة من سلطات رقابية، أو أمنية، اشتكى منها مبدعون، أغلبهم موالون للثورة، لكنها وجدت فى النهاية استجابات فى مركز القرار.
كان ذلك تعبيرا عن الصراع بين انفتاح ثقافى على حرية النقد وخشية أمن من تبعاته.
فى سبعينيات القرن الماضى أطفئت أنوار الثقافة وجرت حرب على المثقفين وتصويرهم على أنهم «أفندية» يبتغون مصالحهم الشخصية، حسب كلام الرئيس الأسبق «أنور السادات».
تدهور مفهوم الفن الشعبى ودخلت مصر فى مرحلة بائسة ثقافيا، رغم أية جهود بذلت لتخفيض الكلفة.
إذا كان لابد من استخلاص حقيقى من «ضربة شاكوش» فى رأس الثقافة المصرية أن ننتبه إلى أهمية فتح المجال العام أمام حريات التفكير والإبداع واحتضان المواهب ونشر الثقافة العامة، بقدر ما هو ممكن فى أرجاء البلاد، كما رفع مستويات معيشة المواطنين فى الأحياء الفقيرة حتى لا يقعوا أسرى هذا النوع من الغناء.