بقلم: عبد الله السناوي
تحت ضربات الوباء تطرح على العالم معادلة صعبة بين الحياة والإفلاس.
يكاد يستحيل القفز فوق الأولويات بالإنكار، أو تغليب الأهواء بالمصالح.
كيف نحفظ صحة وحياة المواطنين وثقة المجتمع فى نفسه وقدرته على تجاوز المحنة بأقل أضرار ممكنة؟.. ومتى يعاود الاقتصاد حركته حتى يتسنى توفير الاحتياجات الرئيسية وخفض فواتير الانكماش والتدهور المحتمل؟
الشق الأول، مسألة وجود ومستقبل وشرعية، فإذا ما تهددت حياة المواطنين بالاستخفاف تتصدع ثقة المواطنين فى قدرتهم الجماعية على التصدى لأية أخطار مشتركة، تضرب الفوضى والاضطرابات فى بنية المجتمعات وتفلت الحسابات عن كل قيد.
حفظ حياة المواطنين أولوية مطلقة لا يصح أن ينازع فيها أحد بأية ذريعة.
الشق الثانى، مسألة لا غنى عنها حيث يصعب على أى دولة أن تتحمل لفترات طويلة إغلاق منافذ حركة الحياة وقدرتها على الإنتاج والإبداع وإشباع احتياجات مواطنيها المتعددة، إنها الحياة الطبيعية والآمال المفتوحة فى تحسين مستويات المعيشة.
لا الاستخفاف بحياة المواطنين على أى نحو مقبولا ولا تعطيل حركة الاقتصاد لفترات مفتوحة ممكنا.
لا توجد إجابة سهلة على تلك المعادلة الصعبة، لا فى مصر ولا بأى مكان فى العالم.
الدول ترقب معدلات الإصابة والوفيات وتستقصى نقاط الذروة ومتى تصل إليها وتتساءل عن الظروف الملائمة لتخفيف الإجراءات الاحترازية قبل الإقدام على أية خطوات قد تترتب عليها نتائج وخيمة.
الكلمة الأولى للطب والعلم والتوقعات المبنية على استقصاءات موثوق فى صحتها، وإلا فإنها مقامرة بحياة مواطنيها.
فى رسالة لها مغزاها حذرت منظمة الصحة العالمية من تخفيف الإجراءات الاحترازية بعدما أعلنت بعض الدول كالنمسا هذا التوجه خشية موجات جديدة من الوباء تقوض ما تحقق فى محاصرته.
الصين رفعت الحظر عن السفر من وإلى «ووهان» مركز الوباء بعدما تراجعت الإصابات أو كادت تختفى.
وفق خطوات وخطط معلنة تتشدد فى إجراءات حفظ الصحة العامة بدأت تدب حركة الحياة والاقتصاد فى جنبات المدينة المنكوبة بعد السيطرة على الوباء لا قبلها.
قد لا تتحمل اقتصادات دول العالم الثالث، الذى ننتسب إليه، توقف عجلة الاقتصاد لأسابيع أخرى، فالإفلاس مصيرها المحتم، غير أن أية خطوة يتعين أن تستند على دراسات مسبقة ومشاورات واسعة بقدر ما هو ممكن مع الكفاءات الطبية والعلمية والاقتصادية فى البلد وليس مجموعة ضيقة مهما بلغت كفاءتها.
اتساع الرؤية وانفتاحها على اجتهادات متعددة من ضمانات عدم الانزلاق فى خطوات قد تخطئ هدفها وتفضى إلى ارتفاعات فى معدلات الإصابة لا يتحملها الجهاز الصحى.
ما بين التعطيل الإجبارى للاقتصاد وعودة عافيته هناك فئات اجتماعية فقيرة ومهمشة تدهس حياتها بالكامل وتحتاج إلى مساندة حقيقية من الدولة.
فى بلد بحجم الولايات المتحدة تضاعفت أعداد الذين يطلبون إعانات التعطل، واضطر رئيسها «دونالد ترامب» إلى تفعيل قانون الإنتاج الدفاعى لإجبار شركات سيارات كبرى على إنتاج ما تحتاجه بلاده من أجهزة تنفس صناعى.
وفى دولة مثل فرنسا اضطرت إلى اتخاذ إجراءات توقف النزيف الاجتماعى الذى زادت معدلاته تحت ضربات الوباء، ولوّح رئيسها «إيمانويل ماكرون» باحتمال اللجوء إلى تأميم بعض الشركات الكبرى إذا ما تهددها الإفلاس.
«ترامب» يمين شعبوى و«ماكرون» يمين وسط، لكنهما تحت ضغط استفحال الوباء استخدما وسائل شبه اشتراكية لا تتوافق مع أفكارهما الاجتماعية.
فى مصر هناك تحسن ظاهر فى مستوى الأداء العام تحت أشد الظروف ضراوة، وضعت خططا وسيناريوهات واتخذت إجراءات لتخفيف معاناة الفئات الأكثر تضررا لكنها تحتاج إلى دعمها بإجراءات أخرى.
الإجراءات الاجتماعية ترادف الإجراءات الاحترازية.
كيف تمول أى إجراءات اجتماعية جديدة؟
هذا سؤال يستدعى أوسع اجتهاد وطنى وفق قدرات البلد وما يتيحه الدستور من خيارات.
قد يقال إن القطاع الخاص تضرر بقسوة وأنه يحتاج بدوره إلى مساندة الدولة، التى اتخذت بالفعل إجراءات تساعد بعض القطاعات الاستثمارية الأكثر تضررا كالسياحة والطيران المدنى والمصدرين.
المعاناة حقيقية والإجراءات فى محلها لضمان قدرة الاستثمارات على معاودة العمل عندما ينجلى الوباء عن العالم وتعود حركة السياحة والطيران والتصدير إلى أحوالها الطبيعية.
مع ذلك فهناك مبدأ سياسى وإنسانى هو «عدالة توزيع الأعباء».
لا يعقل فى بلد يعانى بقسوة وحياته تكاد تشل أن ترتفع أصوات تدعو إلى استصدار تشريع يقتطع نسبا من رواتب العاملين من أجل توفير الموارد لمواجهة تداعيات الوباء، فيما يعفى الأكثر ثراء من أى التزام باستثناء ما يتبرعون به طوعا أو قسرا.
ولا يعقل أن ترتفع أصوات أخرى من بين رجال الأعمال تدعو بعصبية مفرطة إلى عودة العمال لأشغالهم فورا!، دون أى اعتبار لما قد يتعرضون له من مخاطر حقيقية على حياتهم.
أسوأ ما قيل: «لما شوية يموتوا أحسن من إن البلد تفلس».
بالقطع لا يوجد عاقل واحد يتمنى لبلده أن تفلس، غير أن مثل هذا الخطاب المتوحش بلهجته ومنطقه يستبيح حياة العاملين على نحو يؤدى بعشوائيته أن يركع البلد جاثيا تحت شعوره بالعجز أمام الموت الزاحف فى زوايا الشوارع.
العودة إلى العمل فى الظروف الحالية تناقض صارخ مع نداءات «خليك فى البيت» وتقويض لاستراتيجية منظمة الصحة العالمية لحصار الوباء ومنع تفشيه.
قد تكون هناك ضرورات لتحريك بعض أوجه النشاط الاقتصادى، لكنه لا يصح أن يتم بعشوائية، أو تحت ضغط صراخ بعض رجال الأعمال خشية الانتقاص من ثرواتهم المليارية.
يقال عادة إن هناك قضايا عادلة تخسر بمحامين فاشلين.
قضية الاقتصاد تكتسب عدالتها من ضروراتها العامة للبلد كله لا من مصالح صغيرة مهما تراكمت الأموال الخاصة بطرق مشروعة أو غير مشروعة.
قبل أية خطوة لا بد من تدبر العواقب.
فى الدول الأوروبية الأكثر تضررا من الوباء المستشرى مثل إسبانيا وإيطاليا وألمانيا أفضت الإجراءات الاحترازية إلى انخفاض نسبى فى معدلات الوفيات اليومية، اعتبر ذلك مؤشرا على أن الوباء وصل ذروته، وأنه يمكن التطلع تاليا إلى عودة الحياة الاقتصادية إلى طبيعتها بالتدريج.
هذه أمور لا تدار بابتزاز الدولة تهديدا على الشاشات بالانتحار إذا لم يعد العاملون فورا إلى مشروعاتهم!، أو استهتارا متوحشا بأية قيمة إنسانية بالقول إنه إذا لم تكن هناك مستشفيات كافية فليموتوا أفضل من أن إفلاس الاقتصاد.
الأشخاص ليسوا هم القضية، زاوية النظر مكمن الخطر.
هذا التفلت العصبى تعبير عن رأسمالية متوحشة تطل على الناس من بين خرائب الوباء.
العودة المدروسة خطوة بخطوة مع التأمين الاحترازى المشدد لا يصح أن يمانع فيها أحد.
خرق سلامة الإجراءات جريمة متكاملة الأركان، جريمة قتل عمدى تفضى إلى رفع معدلات الإصابة فوق طاقة الأجهزة الطبية.
لكل شىء مواقيته وحسابات وإجراءاته، أى خلل يمتد أثره السلبى فى كل أنحاء الاقتصاد وأوجه الحياة.
ما نحتاجه الآن التأكيد على الإجراءات الاحترازية والتشدد فيها حتى يمكن محاصرة الوباء والعودة إلى الحياة الطبيعية بأقرب وقت.
ما نحتاجه الآن أن يتأكد الرأى العام أن كل خطوة فى موضعها، وأن كل إجراء فى وقته.
الخطأ ممنوع بقدر ما هو ممكن حتى يتسنى التوصل لإجابة صحيحة على المعادلة الصعبة فى الوقت الصعب.