بقلم: عبد الله السناوي
تكاد جولة كاملة من الصراع الدامى على المصير السورى أن تغلق وتبدأ أخرى.
توحى حركة السلاح فوق خرائط القتال بترتيبات جديدة فى موازين القوى على الأرض وشبه انهيار تحالفات استهلكت أسبابها ودواعيها.
كان توغل الجيش السورى داخل محافظة إدلب تعبيرا عن تحول استراتيجى ميدانى لعله الأهم منذ بداية الصراع قبل نحو تسعة أعوام.
بالحساب العسكرى فإن إحكام سيطرته على «خان شيخون» و«معرة النعمان» و«سراقب»، كما الطرق الدولية، تمكنه من المضى قدما فى حسم معركة مدينة «إدلب»، حيث تتمركز المجموعات المسلحة وأخطرها «جبهة النصرة» المصنفة دوليا بالإرهاب.
الحسابات العسكرية المجردة لا تلخص الصورة الميدانية، حيث تتضارب مصالح إقليمية ودولية، بما يضع قيودا على الحركة المسلحة خشية أن تحدث صدامات بين حلفاء مفترضين.
لم يكن الرئيس التركى «رجب طيب أردوغان» مستعدا أن يتقبل التطور الميدانى الجديد، حاول أن يضغط على الحليف الروسى المفترض «فلاديمير بوتين» لإنهاء عمليات الجيش السورى، الذى يوفر له الغطاء الجوى والاستشارات العسكرية، لكن دون جدوى هذه المرة.
بالنسبة لـ«أردوغان» فإن خسارة معركة إدلب تقوض دوره فى سوريا تماما وتهز صورته أمام حلفائه المسلحين وتنال من وزنه فى أية تسوية محتملة بالجولة الأخيرة، التى تستند فيها قوة الدبلوماسية على حقائق القوة بالميدان.
وبالنسبة لـ«بوتين» فهو يرى أن تركيا لم تلتزم بما تعهدت به فى تفاهمات «سوتشى» بينهما بنزع الأسلحة الثقيلة للمجموعات المسلحة فى المنطقة العازلة وتحاول تكريس الأمر الواقع بمنع الجيش السورى من استعادة أراضيه بذريعة خشيتها من نزوح مئات الآلاف إلى حدودها.
هكذا بدأت العمليات العسكرية بدعم روسى وتبدت احتمالات الصدام بين الجيشين السورى والتركى لأول مرة منذ نشوب الأزمة السورية.
أدخلت أرتال تركية إلى منطقة العمليات لدعم «نقاط المراقبة» المنصوص عليها فى تفاهمات «سوتشى»، التى لم تلتزم بها، كرسالة بأنها قد تتدخل بالسلاح لمنع سقوط آخر قلاع المجموعات المسلحة الحليفة.
لم تتأخر الرسالة العكسية، فقد قصفت القوات السورية إحدى نقاط المراقبة التركية فى إدلب فقتلت ستة جنود وثلاثة موظفين مدنيين.
كان فحوى الرسالة أنه ليس بوسع «أردوغان» أن يملى إرادته بكل مرة باسم منع الصدام العسكرى.
لم يكن ذلك ممكنا دون ضوء أخضر روسى.
كانت تلك معضلة مستعصية فـ«أردوغان» لا يريد أن يتورط بصدام مفتوح فوق طاقته العسكرية مع الحليف المفترض الروسى، أو أن يبدد أوراقه السورية بمقامرات ما، لكن الصمت يحرجه أمام الرأى العام التركى وأمام حلفائه المسلحين فى إدلب.
هكذا جاء رده دعائيا بمبالغات فى أحجام الخسائر البشرية التى لحقت بالقوات السورية بعد قصف مواقعها، دون أن يكون ذلك صحيحا، فلا حلقت طائرات تركية، كما يؤكد الروس ولا حدثت خسائر فى الأرواح على ما يقول السوريون.
مبالغات القوة من طبيعة الأداء السياسى والإعلامى للرئيس التركى، يلوح بالتدخل العسكرى عند كل منعطف، يساوم ويفاوض تحت ضغط احتمالات الصدام، يتراجع عندما يجد الطريق أمامه موصدا بمخاطر لا يقدر على تحمل تكاليفها الباهظة.
فى وقت واحد أرسل وزير دفاعه إلى الحدود، حرك قوات، هدد وتوعد، وفتح قنوات حوار مع موسكو لتطويق الأزمة.
لم يفعل شيئا لمنع عودة «سراقب» إلى قبضة الجيش السورى، لكنه لم يتوقف عن التهديد بعملية شاملة برا وجوا إذا لم ينسحب حتى آخر فبراير الحالى إلى ما وراء نقاط المراقبة التركية.
استخدم «أردوغان» كل ما لديه من أوراق للضغط على أعصاب موسكو باحتمال أن تخسر حليفها التركى.
كان لافتا فى السياق المأزوم التصريح الذى أطلقه فى العاصمة الأوكرانية كييف من أنه «لا يعترف بضم روسيا شبه جزيرة القرم بطريقة غير شرعية».
تقوض «تحالف الضرورة» بين موسكو وأنقرة وطهران مجسدا فى مسار استانة لتسوية الأزمة السورية عبر التفاوض وتخفيض مستويات التوتر والتصعيد دون أن يكون هناك طلاق رسمى بعد.
بحسابات المصالح الاستراتيجية والاقتصادية يصعب أن تفرط موسكو فى الورقة التركية، الأرجح أن تحاول استيعاب اعتباراتها دون أن تخضع لها، وقد يعود أطراف «تحالف الضرورة» إلى التفاوض من جديد على قواعد الاشتباك وترتيبات التسوية المحتملة، لكن وفق موازين القوى الجديدة على الأرض.
وفق ذلك التقدير بالغ التعقيد سمحت موسكو بضرب القوات التركية وادعت فى الوقت نفسه أنها لم تبلغ مسبقا بأية تحركات عسكرية حتى تمنع استهدافها.
بنفس القدر فإن أنقرة لا تريد قطع الصلات الاستراتيجية والعسكرية والاقتصادية المتنامية مع موسكو، وتحتاج تفاهمات معها فى الأزمتين السورية والليبية بقدر موازنة الولايات المتحدة كمصدر تسليح فى مواجهة العقوبات المفروضة عليها، لكنها تدعو بالوقت نفسه حلف «الناتو» إلى تدخل ما لحمايتها من أى عقاب روسى محتمل، فـ«حدود تركيا هى حدود الناتو»، كما قيل وتردد على شاشات فضائيات.
اكتفت طهران الطرف الثالث فى «تحالف الضرورة» بالدعم المعنوى لحق سوريا فى فرض سيادتها على أراضيها دون أن تدخل فى مناكفات سياسية وعسكرية مباشرة، بداعى الحفاظ على العلاقات الاقتصادية بين البلدين فى لحظة عقوبات اقتصادية أمريكية قاسية.
فى المشهد المأزوم يتبدى قدر التناقضات فى الحسابات الدولية، ففرنسا التى دخل رئيسها «إيمانويل ماكرون» فى سلسلة من الملاسنات مع «أردوغان» بشأن مستقبل حلف «الناتو» والأزمة الليبية على خلفية إرسال مرتزقة سوريين للقتال فيها، دعمت موقفه فى مجلس الأمن الخميس الماضى بجوار الولايات المتحدة وبريطانيا.
هذا من طبائع الأزمة السورية، حيث الاصطفاف تحكمه المصالح لا المبادئ والاعتبارات الاستراتيجية لا القيم الإنسانية.
عندما تستقر حقائق القوة فى الميدان فإن الدبلوماسية سوف تأخذ مداها فى الجولة الأخيرة من الأزمة السورية، حيث يصعب فى نهاية المطاف حلها بالحسم العسكرى وحده.