الكلام الأمريكى الجديد من أن «صفقة القرن» جاهزة ومكتوبة، واقعية ومنصفة، وقابلة للتطبيق يعوزه أى دليل مقنع.
بنفس الكلام منسوبا إلى فريق «دونالد ترامب» فإن توقيت الإعلان عن الخطة الأمريكية للسلام الفلسطينى الإسرائيلى مؤجل لمطلع العام المقبل.
التأجيل المتكرر على مدى عام ونصف العام تعبير عن فشل مزمن يصعب نفيه.
إذا كانت الصفقة واقعية ومنصفة فلماذا يجرى التكتم على نصوصها باستثناء ما يجرى تسريبه لوسائل الإعلام الإسرائيلية من وقت لآخر لاختبار ردات الفعل المحتملة؟
ثم ما طبيعة التعديلات التى يقال إنها قد أدخلت على الخطة الأمريكية؟
الإجابة: لا شىء له قيمة أو أثر يسمح بتمريرها، أو يدفع فلسطينى واحد لوضع توقيعه عليها.
«صفقة القرن» المعدلة هى نفس «صفقة القرن» قبل التعديل ـ كل شىء للإسرائيليين ولا شىء للفلسطينيين.
ما الجديد إذن؟
إنه الاستثمار السياسى فى أوضاع الإقليم المتردية بالقفز فوق حقائق الصراع العربى الإسرائيلى واستبدال عدو بآخر.
يراد تعميم أن إسرائيل ليست عدوا دون أى اعتبار للمبادرة العربية التى تنص على التطبيع الكامل مقابل الانسحاب الشامل حتى حدود (4) يونيو (1967).
ويراد بناء تحالف استراتيجى يضم إلى إسرائيل أطرافا عربية ضد «العدو الإيرانى المشترك» ـ كما اقترح «ترامب».
بنص كلام رئيس الوزراء الإسرائيلى «بنيامين نتنياهو» فإن هناك تقاربا لم يكن متخيلا بين إسرائيل ودول عربية عديدة على خلفية الموقف المشترك من الاتفاق النووى الإيرانى».
بعبارة مشابهة للمبعوث الخاص الرئيس الأمريكى «جيسون جرينبلات» فإن معادلات الإقليم تغيرت ولم تعد إسرائيل هى العدو بل إيران.
بالنظر إلى أن «جرينبلات» هو أحد مصممى «صفقة القرن» فإن هذا الاعتقاد يكشف نوع التعديلات التى أدخلت عليها واستهدافاتها الرئيسية.
شطب سبعين سنة من الذاكرة العربية وتقويض القضية الفلسطينية بالكامل وتقبل الاحتلالات الإسرائيلية كأمر واقع والتطبيع الاقتصادى والاستخباراتى والسياحى مع إسرائيل.
هذا استهداف أول.
إعادة ترتيب الإقليم من جديد وفق المصالح الإسرائيلية حتى تكون مركز قيادته بعد دمجها فى منظومة استراتيجية تقوض ما كان يطلق عليه الأمن القومى العربى وتفتح صفحة جديدة على حساب أى حق فلسطينى.
هذا استهداف ثان يفسر الإلحاح على صفقة قرن ماتت سريريا ويراد إحياؤها لتسويغ التحالف الاستراتيجى المقترح.
قد يقال إن صلب «صفقة القرن» يجرى تنفيذه على الأرض دون حاجة إلى غطاء عربى، أو شريك فلسطينى.
فالسفارة الأمريكية نقلت إلى القدس رغم المعارضات الدولية وإدارة «ترامب» تعلن بلا مواربة أن المدينة المقدسة خارج أية مباحثات محتملة، الأمر نفسه ينسحب على المستوطنات فى الضفة الغربية دون أدنى اعتبار للقوانين والقرارات الدولية، وأوصر الضفة الغربية تقطع فى منطقة «الخان الأحمر» شرق مدينة القدس رغم المقاومة الباسلة لمواطنيها.
وكل القيم الإنسانية تنتهك وإسرائيل تسبغ على نفسها بـ«قانون القومية» صفة الدولة العنصرية قبل أن يدمغها بها خصومها وجرائم الحرب ترتكب بحماية الولايات المتحدة التى لم تتورع عن تهديد قضاة المحكمة الجنائية الدولية إذا ما نظروا فى أية اتهامات لجنود إسرائيليين، كما لجنودها، بارتكاب جرائم ضد الإنسانية.
هذا النوع من سلام القوة لا يعترف بأية شرعية قانونية أو أخلاقية ولا يتطلب شركاء، لكنه يعجز عن الاستقرار على أرض والفشل محتم فى نهاية المطاف مهما بلغت الضغوط السياسية والاقتصادية كإغلاق مكتب منظمة التحرير الفلسطينية فى واشنطن والتلويح بعزل «محمود عباس» رئيس السلطة، ووقف المساهمة المالية الأمريكية فى وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين لتليين أهالى غزة حتى يتقبلوا فصل القطاع عن الضفة الغربية مقابل تخفيف الحصار وبعض الوعود الاقتصادية.
بصياغة السفير الأمريكى فى إسرائيل «ديفيد فريدمان» فإن «هذه الإجراءات تدخل فى سياق خطة ترامب».
هكذا بوضوح كامل دون مساحيق تجميل.
الإذلال والتنكيل بأى حق إنسانى من طبيعة «صفقة القرن» ونفى الطابع الوطنى التحررى عن القضية الفلسطينية جوهرها.
رغم القوة المفرطة والضغوط فى الكواليس لم تمر «صفقة القرن» ولا أضفيت عليها أية شرعية سياسية وأخلاقية.
إذا ما حلت السلطة الفلسطينية نفسها فإن الأمور سوف تزداد تعقيدا.
بصياغة أخرى فإنه سوف يعاد تعريف القضية الفلسطينية على نحو صحيح: سلطة احتلال وشعب يقاوم بدلا عن أوضاع ملتبسة تزعم انتسابها للسلام دون أن يكون هناك سلاما.
هذا هو الرد التاريخى المعطل على صفقة القرن بمنطقها وإجراءاتها واستهتارها بالقانون الدولى.
مشكلة الدولة العبرية التى لا سبيل لنفيها بأية حسابات مستقبلية أن الكتلة السكانية الفلسطينية فى الضفة الغربية وغزة وأراضى (1948) مرشحة للتزايد.
بصياغة أخرى إسرائيل دولة بلا مستقبل.
الوجه المكمل لـ«صفقة القرن» هو البحث عن وطن بديل للفلسطينيين للتخلص من ذلك الصداع الديموجرافى.
جرت تسريبات مقصودة فى الصحافة الإسرائيلية تحدثت عن وطن بديل فى شمال سيناء يضم مناطق فيها إلى ما اسميت «غزة الكبرى» مع تبادل أراض بين إسرائيل ومصر.
وجرت تسريبات أخرى عن مشروعات فى سيناء لتشغيل أهالى غزة وإنشاء ميناء بحرى تحت السيطرة العسكرية الإسرائيلية يسمح بحرية تنقلهم وتخفيف الحصار عليهم.
لم يكن ممكنا أن تمر مثل هذه السيناريوهات فى بلد حارب وبذل تضحيات هائلة لتحرير سيناء وتأكيد مصريتها.
بذات القدر يصعب أن يمر سيناريو «الوطن البديل» فى الأردن، فهو غير قابل للبحث والنقاش ـ حسب التأكيدات الرسمية والشعبية المتواترة.
من المقترحات المسربة بناء كونفدرالية تضم الأردن والكيان الفلسطينى الذى تنزع عنه القدس والكتل الاستيطانية.
بمقتضى ذلك الاقتراح تنقل مسئولية أمن الضفة إلى الأردن.
فى نفس الوقت تنقل مسئولية أمن غزة إلى مصر ـ كأن البلدين العربيين مكلفين بالوكالة حفظ أمن إسرائيل!
العودة إلى مقترحات الوطن البديل تعبير صريح عن عمق المعضلة الديموجرافية وكابوسيتها المستقبلية.
ربما لهذا السبب، بالإضافة إلى الرفض الفلسطينى الكامل لـ«صفقة القرن»، أعلن «ترامب» ترحيبه بـ«حل الدولتين»، الذى دأب على رفضه، دون أى إشارة للمرجعيات الدولية، كما رحب بحل الدولة الواحدة، الذى استهجنه فى وقت سابق قائلا إنه قد يفضى إلى تولى مسلم اسمه «محمد» رئاسة وزراء إسرائيل.
ارتباك المفاهيم والتصورات أصاب «صفقة القرن» بـ«الشلل الرباعى»، لكنه لم يمس النظرة الصهيونية المتشددة لإسرائيل وحدودها وأمنها، بل إن العكس هو الصحيح بالنظر إلى حزمة المساعدات العسكرية الأمريكية المقررة التى تبلغ (38) مليار دولار فى العشر سنوات المقبلة.
فى ارتباك المفاهيم والتصورات وغياب أية مرجعيات دولية بدت الأفكار الأمريكية أقرب إلى مشروعات استثمارية لا تسويات سياسية، تهديدات وضغوط لحل أزمة إسرائيل بلا مسوغ يحفظ ماء وجه النظم العربية.
الأخطر أن مشروع «ترامب» لبناء تحالف استراتيجى عربى على صلة صداقة مع إسرائيل يؤسس لاستنزاف دول عربية نفطية باسم حمايتها وتفاقم الأزمات الإقليمية دون أمل فى تجاوزها بأى مدى منظور.
المشروع بمنطقه وأهدافه يسحب عن العالم العربى ما تبقى له من احترام لنفسه وأمنه وقضاياه.
نقلا عن الشروق القاهرية
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع