توقيت القاهرة المحلي 03:55:34 آخر تحديث
  مصر اليوم -

عندما زحفت «المدنية»!

  مصر اليوم -

عندما زحفت «المدنية»

بقلم: خولة مطر

عند مدخل الحى بقيت تلك الدكانة لسنين طويلة حتى بعد أن توفى صاحبها وورثها أبناؤه الذين لم تكن لهم نفس الطاقة ولا الاهتمام به فتحول تدريجيا إلى مكان لتجمع الأصدقاء وكثير من سكان الحى من الشباب يتسامرون وأعينهم على مداخل ومخارج المكان، كان البعض يطلق عليهم برج المراقبة لأنهم الأكثر معرفة بكل ما يحدث فى الحى على الأقل فى ساعات النهار الطويلة، يشربون الشاى كثيرا وأحيانا بعض الحلوى والقهوة بالهال.
***
ولا يمكن أن يكون هناك حى فى المدن العربية أيام زمان دون أن يتوسط الحى قهوة هى حقيقة «برلمان» ذاك الزمان يتناقش الجميع ويختلفون على الكثير فيما يلعبون الورق و«الكيرم» وهى لعبة شعبية عرفتها مدن الخليج، عبارة عن خشبه مربعة بألوان وفتحات فى الزوايا الأربعة وقطع من الخشب الملون دائرية الشكل وعلى المتسابقين أن يسقطوا القطع الخشبية فى الفتحات الأربعة، وغيرها من الألعاب الأخرى، وكانت السياسة ليست بعيدة عن تلك الجلسات رغم أن المكان بل كل الأمكنة لم تكن تخلو من «العسس» ولكن ربما أن الأنظمة لم تتوحش حينها كما الحال الآن!
يعلو الصريخ أحيانا بين مؤيدى الناصرية والقومية العربية والبعثيين وبعض اليسار الجديد.. ولم تكن القهوة لتقديم الشاى وغيرها من المشروبات الساخنة والمثلجة بل وأيضا بعض الأطعمة الخفيفة الأخرى.
***
وهناك عند الزاوية الأخرى دكان الحى المعتاد مكتظ بكل الاحتياجات الأساسية لكل بيت إلى جانب المشروبات الغازية.
تدريجيا زحفت ما عرف بـ «المدنية» إلى المدينة، تصور سكان الحى أن حيهم سيبقى يحافظ على تراثه وتفاصيله.. بقى وصمد بعض الشىء ولكن كان الضحية الأولى القهوة الشعبية التى أغلقت أبوابها بعد أن هجرها سكانها الأصليون وبقى منهم بعض كبار السن الذين كانت هى كل حياتهم اليومية ومجالس يتسامرون فيها ويعيدون ذكريات الأيام الجميلة.
***
انتقل رواد القهوة الشعبية إلى المقاهى التى اقتربت تدريجيا من حيهم من ستاربكس إلى كوستا كافى حيث استبدلوا القهوة الشعبية والشاى المسكر بالكابتشينو واللاتيه بنكهاته المتنوعة.
أما الضحية الثانية فكانت تلك الدكانة الصغيرة عندما بدأت أسواق السوبر ماركت العالمية تفتح أبوابها بأرفف مزينة بكل ما لذ وطاب، مغريات كثيرة تستعدى المشترى لامتلاكها رغم أنه أو أنها قد لا يكونوا بحاجة لها.
***
كلها أشهر أو أقل وأغلقت المحال واحدة خلف الأخرى أبوابها وانفض الرواد وتناثروا أو بحثوا عن مقهى آخر يبعد بعض الشىء قد يكون قاوم الزحف المقبل مع ما سمى بـ «المدنية» والحضارة القادمة بثقافات متعددة وفى البداية محتقرة كل ما هو تراثى.. كما هجر القهوة روادها، رحل سكان الحى إلى المدن الحديثة ببيوت «فلات» كبيرة بحدائق وأحيانا حمامات للسباحة أو شقق مكتظة للطبقات الأقل فى إمكانياتها المادية.
***
تكفلت الدولة بمدن للفئات محدودة الدخل، فقدت العائلات ترابطها وتواصلها.. ابتعد الكثيرون حتى أصبح لقاء الأخ بالأخ عبر المواعيد، أغلقت تلك البيوت بأحواشها الجميلة الرطبة فى الصيف عندما كانت النساء ترشها فى أيام الصيف بالماء لتخفف من حرارة الجو.. تركوها وتصوروا أن الحضارة هى المقبل من هناك من أفلام هوليوود بنسائها الأنيقات ورجالها المهندمين.
***
اختفت المشروبات البسيطة واكتظت الأرفف بمشروبات بنكهات مختلفة حتى احتار المشترى فيما يشرب وهى كالمقاهى الحديثة كلما تعود الزوار على مشروب خلقوا الجديد أليست هى ثقافة الاستهلاك التى أصبحت نمطا للحياة الحديثة.
***
انتقلت العمالة الوافدة إلى الأحياء التى هجرها أهلها لرخص الإيجارات وانتشرت روائح الأطعمة الآسيوية المتنوعة واحتلت مكانها بدلا عن رائحة السمك الطازج المقلى عند ظهيرة أهل الحى.. وتحولت يافطات المحال لتحمل أسماء بلغات وأحرفا بعيدة عن تلك الأرض.. اختلطت الأحياء حتى فقدت شكلها وتفاصيلها.
***
التهجين هو ما طغى على ذلك الحى وغيره.. كما زحفت «المدنية» زحف الإهمال على تلك الأحياء وعندما وعى أهلها على أهمية أن يحافظوا على تراثهم أو ما تبقى منه كان بعضها قد غادر دون عودة.. وبقى أهلها يترحمون على تلك الأحياء.. على حياتهم البسيطة وعلى محبة وتواصل رحلوا عندما زحفت «ستاربكس» لتحل محل قهوة محمود!

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

عندما زحفت «المدنية» عندما زحفت «المدنية»



GMT 23:29 2022 الإثنين ,12 أيلول / سبتمبر

نحو قانون متوازن للأسرة.. بيت الطاعة

GMT 23:27 2022 الإثنين ,12 أيلول / سبتمبر

نحن عشاق «الكراكيب»

GMT 23:25 2022 الإثنين ,12 أيلول / سبتمبر

التوت و«البنكنوت»

GMT 20:38 2022 الإثنين ,12 أيلول / سبتمبر

الصفقة مع ايران تأجلت... أو صارت مستحيلة

GMT 07:51 2021 السبت ,11 أيلول / سبتمبر

الملالي في أفغانستان: المخاطر والتحديات

اللون الأسود سيطر على إطلالات ياسمين صبري في عام 2024

القاهرة ـ مصر اليوم

GMT 08:31 2025 الأربعاء ,08 كانون الثاني / يناير

أدوية حرقة المعدة تزيد من خطر الإصابة بالخرف
  مصر اليوم - أدوية حرقة المعدة تزيد من خطر الإصابة بالخرف

GMT 19:55 2025 الأربعاء ,08 كانون الثاني / يناير

أحمد مكي يخلع عباءة الكوميديا في رمضان 2025
  مصر اليوم - أحمد مكي يخلع عباءة الكوميديا في رمضان 2025

GMT 09:13 2024 الأربعاء ,27 تشرين الثاني / نوفمبر

إطلالات الأميرة رجوة الحسين تجمع بين الرقي والعصرية

GMT 00:03 2025 الأحد ,05 كانون الثاني / يناير

بايدن يُكرم ميسي بأعلى وسام في أمريكا

GMT 10:18 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

"نيسان" تحتفي بـ40 عامًا من التميّز في مهرجان "نيسمو" الـ25

GMT 13:37 2020 الأحد ,24 أيار / مايو

الفيفا يهدد الرجاء المغربي بعقوبة قاسية

GMT 12:48 2020 الثلاثاء ,19 أيار / مايو

أسعار الذهب في مصر اليوم الثلاثاء 19 مايو
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
Egypttoday Egypttoday Egypttoday
Egypttoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
Egypt, Lebanan, Lebanon