بقلم - خولة مطر
فى مشهد مثير من ذاك الفيلم الهوليودى فى أواسط السبعينيات يمر البطل بأزمة وهو فى متجر كبير، ويبدو وكأنه غير قادر على التنفس، فيما تحاول صديقته والعاملون بالمتجر مساعدته وطلب المساعدة الطبية، وفجأة تمتد الأيدى من زبائن المحل بأنواع مختلفة من الحبوب المهدئة وبالتحديد النساء، وكأن بحقيبة كل امرأة أمريكية فى السبعينيات شكل من أشكال الأدوية المهدئة أو المسكنة أو المضادة للاكتئاب..
ما ينقذ البطل هو كيس من الورق يطلب منه أن ينفخ فيه بهدوء، وهى الوسيلة الفضلى لمواجهة مثل هذه النوبات من القلق الحاد أو «الانكزايتى».
***
كنا نحن فيما يسمى بالدول النامية أو دول الجنوب لم ندخل ذاك العالم بهذه الدرجة، ربما لأن المجتمع كأن ولا يزال ينظر بشديد الريبة للأمراض النفسية والعصبية وربما لأن التضامن المجتمعى كان لا يزال قوى والترابط والتلازم والمحبة تقوم بكثير من الدعم حتى لو كان بشكل غير مباشر... فيما لا أستطيع أن أنسى مشاهد المعاملة القاسية من نفس ذاك المجتمع لما كان «بالمجانين» وخاصة فى مدينتى العريقة المحرق حيث كتب عنهم وعنهن الكثير من الروايات والقصص التى فى مجملها تدل على أنهم ربما كانوا يعانون مرضا نفسيا أو ربما خيبات فى الحب أو الحياة!!!
***
هكذا كانت السبعينيات، أما الآن ومع اشتداد ضغوطات الحياة العصرية ومتطلباتها، دون أن ننسى تحولات المجتمعات التقليدية وتمزق الأسر والأصدقاء وتشتتهم فى أطراف الأرض إما بحثا عن الرزق الشحيح أو حتى عن فرصة للعيش أو التطور أو العلم.. مع كل ذلك فقد ازدادت نسبة المصابين ــ وحسب تشخيص العديد من الأطباء النفسيين ــ بالاكتئاب أو الرهاب أو القلق وتكثر التسميات والتعريفات.. حتى أصبحت عيادة الأطباء النفسيين أكثر اكتظاظا من صالونات الحلاقة، وتنافس الأطباء النفسيون فى تكلفتهم مع أطباء وجراحى التجميل فى زمن شعاره التجمل حتى توحدت أشكال النساء وأصبحن جميعهن متشابهات حد الملل وفقدت الكثيرات ملامحهن الأصلية والخطوط والتجاعيد التى ما هى إلا تعبير عن تجارب فى الحياة كانت..
***
اللافت فى كل هذه التطورات هو استسهال الأطباء النفسيين لوصف الأدوية المتتالية والتى تؤدى أحيانا إلى أن يخدر المريض أكثر من أن يشفى ويصبح أكثر اتكالا واعتمادا على الأدوية.. وفيما تطور العلم طبعا أدى إلى تفسير العديد من الظواهر التى لم تكن معروفة سابقا وفيما أصبح المجتمع أكثر تقبل لفكرة أن المرض النفسى كالجسدى بحاجة للكشف والعلاج والمتابعة، فى نفس ذاك الوقت ــ وكما هو حال الأمراض الجسدية ــ استشرت شركات الأدوية فى وصفاتها للعديد من الأمراض ودعمها للتسميات المختلفة، وكل ذلك فى سبيل الربح السريع.. وحسب العديد من المصادر فإن أرباح شركات الأدوية العالمية (المتركزة فى دول صناعية محددة والتى تحارب كل الشركات فى الدول النامية، فمعظم شركات الأدوية هى فى الولايات المتحدة وسويسرا وفرنسا والدنمارك) وصلت إلى بلايين الدولارات. أما المثير فى الأمر فهو ازدياد عدد المصابين من الأصدقاء والمعارف والمحيطين فى الحياة، أو الذين شخصت حالاتهم على أنها «اكتئاب» حتى أصبحت الكلمة جزءا من خطاباتنا اليومية.. فهذا لا يتحدث ومنطوٍ لأنه مكتئب، وذاك بحاجة لزيارة الطبيب النفسانى، وذاك يتعالج هناك، وهكذا انتشر الاكتئاب كالإنفلونزا وأصبح الزنكس والديناكسيت ولكسوتنيل كالحبوب المسكنة للصداع، متوافرة فى صيدلية كل منزل على الرغم من أن السلطات فى معظم دول المنطقة تشترط وجود وصفة طبية ومتابعة من الأطباء ولكن...!!!!
***
هنا كان مثار تصريح الطبيب والعالم النفسانى «جيروم كاجان» فى مقابلة حديثة له، وهو العالم فى جامعة هارفرد والذى يعتبر من أهم علماء النفس ويوضع اسمه مع الرواد فى هذا المجال أمثال «إيفان بافلوف» و«كارل جونج». المثير فى مقابلته أنه امتلك الشجاعة ليفتح النقاش حول دور شركات الأدوية فيما يسميه «وصف العديد من الأشخاص على أنهم مرضى نفسيون لمصالحهم الخاصة».
ويضيف أن العديد من الأمراض النفسية هى مجرد «اختراع» وليست مرضا خطيرا.. ويضيف أنه ــ من خلال سنين طويلة من البحث ومراقبة العديد من الأطفال ــ وجد أن ردود فعل طفل تختلف عن الآخر فى مواجهة أحداث أو تطورات فى الحياة، ولذلك فبدلا من وصف الأدوية، يرى «كاجان» أن على الطبيب أن يعالج الأسباب التى تواجه هؤلاء الأشخاص بدلا من وصفهم بأنهم مرضى نفسيون، وهو ما يؤدى فى الكثير من الأحيان إلى فقدانهم للثقة بالنفس وهى بالتالى تزيد من اعتمادهم على الأدوية.. وقد تكون تجربته الشخصية وهو طفل وكيف تعاملت والدته مع ما كان يمر به هو السبب الذى دفعه الآن وبعد سنوات البحث إلى التأكيد على أهمية معالجة الأسباب والامتناع عن وصف الأدوية ومزيد من الأدوية..
***
الأهم فى كل ذلك أن الكثير مما نمر به اليوم من ضغوطات قد يكون بالإمكان معالجته، ربما عبر المساندة والحب والتفهم والتضامن المجتمعى، ربما عن طريق المواجهة أو البحث قبل تناول أى دواء، فشركات الأدوية تزداد فى وصفاتها الطبية وهناك جيش من الأطباء الذين يروجون لها.. انظروا لحجم المؤتمرات التى تعقدها شركات الأدوية وعدد الأطباء والطبيبات المدعوين لمؤتمرات الرفاه والبذخ؛ ربما لشراء ذمم الأطباء، وربما لاستسهال الربح على حساب العديد من الضحايا ومنهم كثير من الأطفال والشباب والشابات.
نقلا عن الشروق القاهرية