بقلم: خولة مطر
فى حيّنا المؤقت الجديد مجموعة من الشباب تأتى فى المساءات الصافية وتضع موسيقاها وتبدأ فى الرسم على ذاك الحائط بعد أن دهنه باللون الأبيض.. نقاش يدور بين الثلاثة٬ شابين وشابة وحوارات تبدو ممتعة لأنهم فى كل يوم يضيفون شخصية عربية مهمة من رفاعة الطهطاوى إلى طه حسين ونجيب محفوظ وكثيرين غيرهم. مع كل صورة عبارة شهيرة للشخصية وبينهم جميعا لم تبرز أى صورة لامرأة سوى لها كما هى على غلاف تلك الرواية الأخيرة عنها.. عند صورة مى زيادة يضعون موسيقاهم وعدتهم وعدادهم، كثير من علب الألوان والفرش ودرج حتى يصلوا إلى أعلى الجدار.. مثيرة هذه الشلة من الشباب فهى صغيرة جدا فى السن وتبدو خارجة عن نطاق المألوف من هذا الجيل فى الاهتمامات بمثل هذه الشخصيات التاريخية. حتى الموسيقى تتحول من أنغام الراب السريع إلى فيروز وزياد. فى عتمة المساءات الخريفية تبدو هذه الشلة من الشباب «منورة»!!
***
على مقربة منهم تصطف العربات الفاخرة لزوار تلك المطاعم، ينزل منها كثيرون ممن لا ينتبهون حتما لتلك اللوحات والعبارات والشخصيات والفن ولا حتى للشباب الجالس على الرصيف يحتسى بعضا من مشروب ويدخن فيما جو النقاش والرسم والإبداع لا يتوقف حتى الساعات المتأخرة من الليل.. على نور خافت لبطارية ينقشون ذاك الجدار كل يوم.. وهم ليسوا وحيدين فى ذلك ولكنهم فقط من بعد عن الرسومات الغاضبة والنقد اللاذع واتجه ليذكر بتاريخ جميل وعبارات من الحكمة بكثير..
***
كثرت الرسومات على الجدران فى بيروت منذ الاحتجاجات التى مضى عليها عام كامل.. فى مجملها تعبير عن غضب شديد تجاه النظام ورجال السياسة والوضع المعيشى وهى فى ذلك لا تختلف عن تلك النقوش الجميلة التى زينت شوارع القاهرة المحاذية لميدان التحرير فى 2011 وما بعده، وربما أكثرها شهرة هو شارع محمد محمود حيث عبّر كثير من الشابات والشباب عن همومهم وطموحاتهم وأحلامهم التى ما لبثت وأن طارت كالعصافير..
***
كثير من تلك الرسوم هناك وهنا تحولت إلى لوحات فنية رائعة الجمال والإبداع.. وفيما رافقت رسوم الجدران «الجرافيتى» تلك الانتفاضات والاحتجاجات وأصبحت كما هى فى كل العالم وسيلة تعبير قوية للجيل الشاب، لم يستطع كثير من «الكبار» استيعابها أو فهمها بل على العكس، بعضهم قال عنها «شخبطة» وآخرون صوروها على أنها تشويه وتخريب لمدنهم الصامتة.. وما هى إلا فترة بسيطة فتمتد يد الأمن لمحيها ويقول ذاك الفنان الجميل ليتهم يعملون الأمر ذاته فى رفع صور تلك الملصقات بوجوه وكلمات مكفهرة وممجوجة..
***
يعيدك صوت الفتاة بنبرة حماسية إلى شارع المونو فى بيروت عند ذاك الجدار ومقابل وجه مى زيادة الحزين، تستمعين لها وهى تحاضر رفيقيها عن قمع النساء وظلمهم فى مجتمعاتنا وكيف أن مى زيادة هى مثال على ذلك.. ملفتة هذه الشابة فى عمرها هذا وهى تخبرهم عن رواية واسينى الأعرج عن حياة مى زيادة وكيف فضح ما لحقها من الأقربين قبل البعيدين ومن كثير مما كان يقال إنهم رجال عشقوا مى.. أحدهم لا تبعد صورته عن صورتها على ذاك الجدار وهو الأديب الكبير الذى تنكر لها عندما أودعها أهلها مصحة عقلية فقط ليحرموها من الإرث.. ومثله كان آخرون من زوار لمجلسها الثقافى العامر..
***
جلست هى على الرصيف وراحت تطلب من زميلها تعديل وجه مى بعد أن محت أمطار الليلة الماضية بعض منه.. تريدها أكثر وضوحا من جيرانها الذكور على ذاك الجدار بل ربما أكثر حضورا منهم أو هكذا تخيل للصبية العشرينية.. بعد ساعات حملت هى وهما الألوان والموسيقى ورحلوا ليعود للشارع صمته فيما الجدار ينطق شعرا وغزلا وفكرا وإبداعا..