بقلم - خولة مطر
جاءت نصيحة ذلك الصديق واضحة «ابتعدى عن التليفزيون» فملأ الأجواء ضحكا كعادته منذ سنين طويلة. هو الذى عرف المنافى كلها والغياب القسرى لأكثر من ثلاثين عاما عن الوطن، وعندما عاد انتهى شهر عسله سريعا، وما لبث وأن عادت لتطارده الأشباح فيعود لسخريته المعهودة منذ كان فى تلك الجبال يتسلل بينها عبر حلمه، الذى يبدو للكثيرين الآن أنه كان ضربا من الرومانسية أو الجنون أو كليهما معا، إلى وطن للجميع فقط لا كلمات رنانة حينها ولا شعارات وعبارات نبشت من كتب الفكر ولا حتى تعالى على أهل الجبل وهو القادم سريعا من مقاعد الجامعة الأمريكية فى بيروت..
***
هو وبعد كل هذه السنين ينصح بالابتعاد عن التليفزيون فى حالة المرض الشديد وفى هذه لا يمزح بل يرددها بكثير من الجدية.. وكيف تستغرب والإعلام فى أكثر مراحله انحطاطا فى التاريخ الحديث، وأوطاننا أو ما تسمى أوطان هى على قائمة الدول الأكثر انتهاكا لحقوق الإعلاميين والصحفيين الحقيقيين حتى امتلأت الصحف والمحطات التليفزيونية والإذاعية بأشباه الصحفيين وأشباه الإعلاميين أو حتى بعض من الدخلاء الذين لا يمكن وصفهم إلا بـ«الرداحين».
***
ورغم نصيحته فالطبع يغلب التطبع ومتابعة الأخبار والمنطقة عند حافة البركان القادم تعاود الضغط على الريموت تقلب المحطات.. لحظات من الجنون فى البدء تمر على ما تبقى من مدن كانت الأقرب لقلبك وهى حطام ليس الحجر بل البشر.. تعاود الذكريات والصور هنا وهناك لأشخاص رمتهم الحروب والنزاعات فى مدن الشتات التى لا تصون كرامتهم إلا ببعض كلمات عند الحاجة الانتخابية أو السياسية وفى الواقع لا كرامة للاجئ عربى فى بلد عربى!!! بعدها ومباشرة هناك مدن تعيش ما يدعى البعض أنه عرس انتخابى وهو حقيقة كالأعراس يسرق الفرح بعد إطفاء الشمعة الأخيرة فوق تلك الكعكه المزينة وهنا تبدأ رحلة المعاناة.. عندما تفتح الصناديق ويتربع الفائزون على مقاعدهم الوثيرة فى البرلمانات الصورية تسقط الديمقراطية فى مستنقع الواقع المشوه.. لا يزال البعض يتصور أن الانتخابات والصناديق هى الديمقراطية!!! بينما مدن الملح ومحطاتها غارقة فى بحور اللهو فى الوقت الضائع.. تعيش خارج التاريخ والجغرافيا وتعلب الأوهام فى برامج حتى الجيد منها لا يمكنه الخروج من عباءة الانحطاط فى الذوق العام والأخلاق.. وعندما تفتح المجال للحوار السياسى المحرم والمجرم فهو فقط لتعبِّده الطرق المتبقية نحو صفقة العصر.
***
معك حق أيها الصديق والرفيق فهذه هى سبب رفع ضغط وحرارة ومرض معظم مساكين هذه الأوطان.. ولكنه نسى حتما أن يضيف وسائل التواصل الاجتماعى والتى كشف برنامج على محطة الـ«بى بى سى» (وحقيقة لم يكشف سرا) أنه ومنذ العام 2011 بدأت العديد من حكومات المنطقة فى خلق أسماء ومواقع وحسابات وهمية كلها تصب عند الأجهزة الأمنية فى هذه الدول بل وقامت باستثمار أغلى البرامج لتساعدها على التنصت وحجب المواقع وغيرها من الوسائل التى لا يمكن أن توصف إلا بمزيد من كبت الحريات وخلق دويلات الرعب والتخويف والترهيب!!!
***
تبتعد عن التليفزيون عند نصيحته وتعمل على الخلود للراحة ولكن هناك رسالة عاجلة على تويتر لا تستطيع أن تقاوم قراءتها وهى تنبئك بأن فريقين من بلدين عربيين يشاركان فى سباق للدراجات فى آخر دولة احتلال على وجه الأرض بشهادات من منظمات وحكومات مستقلة وخبراء قانونيين ليسوا عربا ولا مسلمين!!! لا تستغربها كثيرا فالصحف الإسرائيلية ومحطات التلفزة تنشر كل شيء وتتباهى بهذه الفتوحات الجديدة فى جدار ما كان يسمى «الصمود العربي»!!! والجدار المانع ووووو.. يساندهم فى ذلك شلة من مراكز بحثية فى بعض الدول وباحثون خليجيون يكررون نفس العبارة بكلامات مختلفة.. لقد سقط الجدار الحاجز وتل أبيب هى وجهتهم للتصييف فى هذا العام والأعوام القادمة، والأسواق كلها لهم وهى أسواق مجزية لأن أهلها لم يكتب لهم إلا أن يتعلموا شيئا أوحد من زيارتهم لمدن النور والثقافة والفن ألا وهو الاستهلاك ثم الاستهلاك ثم الاستهلاك.. وهذا فتح آخر لإسرائيل فى جدار كان منيعا ولكنه تهالك مع فعل الأيام والزمن وفساد النخب السياسية وحتى المجتمع المدنى ومنظماته وتشويه الحضارة والفهم..
***
تتبخر نصائح الرفيق / الصديق سريعا وتعود إلى واقع يفوق توقع حتى أكثر المحللين فهمًا للمنطقة وللسياسات الدولية.. تعود حرارتك للارتفاع تدريجيا ويحتار الأطباء عن الأسباب!! تبتسم وتعيد تكرار «عند الناصية ضوء وبعض الياسمين» ابقوا بخير وبعقولكم فى زمن الجنون اللا متناهى!!!
نقلا عن الشروق القاهرية
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع