بقلم - خولة مطر
ليلى الغندور (8 أشهر) استنشقت غازا مسيلا الدموع فعادت إلى أهلها مدثرة بالكفن بدلا من دمية صغيرة تحملها ككل أطفال الكون..
وصال (14 عاما) قالت أمها المنتحبة: حاولت أن أمنعها من الخروج من البيت والمشاركة فى الاعتصامات ولكنها قالت: «إننى انتظر هذا اليوم منذ شهر فلا تحرمينى منه يا أمى» ففتحت الأم الباب وخرجت وصال ليقتلها قناص إسرائيلى برصاصة فى الرأس..
***
ليلى ووصال وعشرات من القتلى وآلاف من الجرحى.. نساء ورجال وشباب وأطفال وفتية فى مقتبل العمر.. كلهم قتلوا برصاص القناصة والأسلحة المتطورة للجيش الإسرائيلى وهم لا يحملون سوى أجسادهم المتعبة من سنوات من الحصار الكلى والفقر والبطالة والعوز.. هم ليسوا أرقاما بل أسماء لبشر بحيوات متعددة ومتلونة على الرغم من قتامة الواقع فى غزة لسنين ممتدة..
***
فى عينى ليلى كانت الشمس تشرق وهى تنظر لنا جميعا، الغاضبين منا حتى العجز والمستسلمين حتى اللامبالاة والمبررين حتى الخزى والمنهمكين فى التفكير فيما يأكلون على الإفطار من وجبات دسمة وأى مسلسل يشاهدونه مع الشاى والحلوى.. ومن سيفوز فى مسابقة ذى فويس إن لم تكن النتائج قد أعلنت ولم أنتبه لها لكثرة الدم الفلسطينى الذى سقى الأرض العطشى وغطى نوافذ الرؤية..
***
كان سلاحهم حناجرهم وبضعة أحجار وعلى الضفة الأخرى كل المتطور من الأسلحة وجنود الاحتلال المدججون بكل أنواع المعدات الحربية وكأنهم فى معركة أو حرب حقيقية وكأنها اشتباكات كما سماها بعض الإعلام أو كله.. فقد استخدم الإعلام، كل الإعلام وأكثره الناطق بالعربية أيضا تعابير مثل «قتلى فى اشتباكات» والتعريف الدقيق للاشتباك هو حسب المعاجم العربية أن يلتحم طرفان فى حرب أو نزاع أو اشتباك بالأسلحة وهذا تعريف خاطئ بل مضلل لما يجرى فى فلسطين على مر سبعين عاما وليس فقط لما حدث لأهلنا فى غزة خلال الأسابيع الماضية..
وإن يقال «مات عشرات من الفلسطينيين اليوم» هم لم يموتوا بل قتلوا ولكل حكايته عن كيف أطلق الرصاص الحى وكيف يعاد اصطياد الأفراد واحدا خلف الآخر، وكل جريمتهم أنهم طالبوا بما نصت عليه كل المواثيق والأعراف التى هى من حق كل البشر إلا الفلسطينى الذى لا حق له..
المثير فى الأمر ليس الموقف الدولى، ففى بعضه أكثر من موقف مشرف، إنما موقف العرب وهو الآخر ليس مستغربا فخلال السبعين عاما تحولت القضية الفلسطينية إلى مجرد ظاهرة للمزايدات بين الحكومات والمسئولين وبعض البعض من المفكرين والإعلاميين اللامعين جدا!!! ولكن أن تخرج أصوات لتبرر القتل والدم وأن تحول الشعب الفلسطينى فى غزة وكل الأرض المحتلة بأنهم مجرد لعبة فى يد طرف سياسى أو آخر فهذا أمر لا يبعث إلا على مزيد من الغضب وكثير من التشويه الممنهج المستمر من قبل فئة تصورت أنها قادرة على احتقار ذكاء ومشاعر الكثيرين ليس من الفلسطينيين فقط بل العرب وكل أحرار العالم..
***
سقطت ليلى ووصال ومحمد وفهد وأحمد وعادل وسعيد وإبراهيم وإيمان وسيد ومحسن وسليم وكل اسم لصبى أو فتاة من غزة خرجوا فى يوم مطالبين بأبسط حق لهم ــ وهو الحرية والعدالة ــ رافعين أعلام بلادهم فلسطين وبضع طائرات ورقية هى أكثر حرية منهم، فيها يرون كيف يمكن أن يكون الهواء والماء والأرض أوسع من ثقب فى جدار أو الأسلاك الشائكة وشباك فى سجن كبير سمى غزة وفلسطين.. هؤلاء الضحايا لم يطالبوا العالم ومنظماته بحقهم فى كل ذلك، ولم يجبروا سكان مدن الكون أن تشاركهم مطالبهم هذه.. هم فقط خرجوا وحدهم وما لبثوا أن التحفوا التراب، وراح أولئك المتوسدون على مخدات ريش النعام ينعتونهم بأشد الألفاظ وينهالون عليهم باللوم فتتحول الضحية إلى مجرمة وتشيطن القضية بأكملها ضمن أجنداتهم الإقليمية..
***
ليستمروا هم ونبقى نحن تحاصرنا عيون ليلى وبقع الدم وأصوات الشهداء منهم أطفال وشباب وشيوخ..
لا نملك إلا أن نردد ما قاله محمود درويش:
الشهيدُ يُحاصرُنى كُلَّما عِشْتُ يوما جديدا
ويسألنى: أَين كُنْت؟ أَعِدْ للقواميس كُلَ الكلام الذى كُنْتَ أَهْدَيْتَنِيه،
وخفِفْ عن النائمين طنين الصدى
الشهيدُ يُعَلِّمنى: لا جمالىَّ خارجَ حريتى.
الشهيدُ يُوَضِّحُ لى: لم أفتِشْ وراء المدى
عن عذارى الخلود، فإنى أُحبُ الحياةَ
على الأرض، بين الصَنَوْبرِ والتين،
لكننى ما استطعتُ إليها سبيلا، ففتَشْتُ
عنها بآخر ما أملكُ: الدمِ فى جَسَدِ اللازوردْ.
الشهيدُ يُحاصِرُنى: لا تَسِرْ فى الجنازة
إلا إذا كُنْتَ تعرفنى.. لا أُريد مجاملة
من أَحَدْ.
الشهيد يُحَذِّرُنى: لا تُصَدِقْ زغاريدهُنَ.
وصدق أَبى حين ينظر فى صورتى باكيا:
كيف بدَلْتَ أدوارنا يا بُنى، وسِرْتَ أَمامى.
أنا أولا، وأنا أولا !
الشهيدُ يُحَاصرنى: لم أُغيِرْ سوى موقعى وأَثاثى الفقيرِ.
وَضَعْتُ غزالا على مخدعى،
وهلالا على إصبعى،
كى أُخفِف من وَجَعى !
سيمتدُ هذا الحصار ليقنعنا باختيار عبودية لا تضر، ولكن بحريَة كاملة!!.
نقلا عن الشروق القاهرية
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع