بقلم - خولة مطر
بعينين ناعستين من قلة النوم أو نقصانه، تبحث عن ما تحب فى هذه المدينة وقبلها حبك الأول فى المدن عندما كان للمدن رائحة غير غمامتها ومخلفات حيواناتها الأليفة ولها لون أيضا ربما هو شمسها التى كانت قبل أن تغزو السموات الزرق أغبرة وأتربة التلوث وتغير المناخ..
• • •
لا تزال تبذل جهدا لفتح عينيك وأنت تبحث عنها، عن تلك التى أحببتها وبقيت رغم تعرجات الزمن وأحداثه المتلاحقة هى الأكثر حضورا فى الذاكرة الباهتة!
• • •
ليست المرة الأولى وأنت لم تبعد عنها طويلا فقد كنت هنا قبل أشهر فقط ولكنها تتغير وتتحول وتدريجيا تمسح تفاصيل كانت الأجمل وتتحول إلى مدينة أخرى بلا روح.. عندما حوروا التاريخ أو زوروه أو حتى مسحوه فقط بـضغطة «دليت» أو محو.. هم يتفننون فى محو كل ما تبقى، يقول صديقى العزيز «هم والزمن والطبيعة علينا» ويبتسم مكملا: «ما خلاص قربنا نروح وده أحسن مش عايز أبقى أكثر»، وقبل أن يكمل يعلو صوت جميع الحضور «بعيد الشر بعيد الشر» فيما هم وهن جميعا مثله يتمسكون ببعض ما تبقى حتى لا يبدو «المسح» المستمر وكأنه مؤامرة متكاملة المعالم على المساحة المتبقية لحياة تشبه الفرح الذى كان..
• • •
صممت رغم عدم توقف السائق عن الهدر فى الكلام، نعم هذه لحظة الهدر فى الطعام والشراب والملبس والمكسى وحتى الكلام.. هدر فى هدر.. ضاع ذاك الدرس القديم الذى كررته علينا مدرسة العربى «إذا كان الكلام من فضة فالسكوت من ذهب». لم يعد الكلام من فضة ولا ذهب بل أصبح الكلام ساكتا فى صخبه وباهتا فى كثرته.. ولكنه، أى سائق تاكسى المطار، لم يعرف هذا الدرس ولم يسمع به بل هو من مدرسة أكثر من الحديث فقد يمنحك الراكب مزيدا من الجنيهات!
• • •
عودة لتضاريس المدينة التى بدأت تتوسع ربما بفعل عدد السكان المتزايد فى كل مكان رغم محاولاتهم بتقليل السكان فقد انتصرت إرادة البشر على نظريات المؤامرة وبقيت هواية الإكثار من الأطفال هى الأكثر انتشارا حتى مع كم السخف والابتذال على وسائل التواصل وخاصة التيك توك.
• • •
أين تلك العمارة فى قلب العاصمة التى كانت هى رمز لمرحلة معمارية خاصة، وأين المقهى ذاك المزدحم و«فين راح مجرى النهر؟» أسئلة محيرة حتى اختلطت تضاريس المدينة أو ربما مسخها الجديد الذى يحمل تسميات رنانة ومغرية وربما عمرانية، كما يقول عنها المعمارى الشاب الذى يسعى إلى أن لا تتعود عيوننا على هكذا بشاعة عمرانية حتى ندمنها، ونحول مدننا إلى ما يشبه تلك التى أصبحت مرجعا للمدن الحديثة تتسابق العواصم والحكومات على تقليدها لتصبح مدننا كما كثير من نسائنا ورجالنا أيضا متشابهات بفعل خربشة جراح تجميل! هى جراحة تشويه وليست تجميلا حتما.. ليتهم يمنحونها ما يشاءون من الأسماء إلا أن تحمل وصف تجميل والذى هو حسب المعاجم يعنى جمّل الشىء أى حسنه فى الشكل أو الخلق أو زين الشىء.. فما الجميل فيما يحدث لكثير من تلك التى كانت تسمى مدن الورد والماء والجمال دون أسوار تحجب الرؤية إلا لمن استطاع لها سبيلا بماله أو نفوذه أو كليهما.
• • •
جاهدون هم فى ردم كل صور الماضى أو ربما طمسها تحت الطين والتراب أو تشويهها حتى يهرب عشاقها القدامى لتبقى بقايا صورها فى زوايا الذاكرة. أما ما تبقى فنحن كشعوب كفيلون بهدمه أيضا ربما لكثير من الجهل حتى بين حملة الشهادات والفقر المادى والحسى والجمالى والطمع الذى تحول إلى نمط سلوك وحياة وكثير من اللامبالاة وترديد مقولة «هى وقفت عليا»، كلهم أو كلنا مدانون بدفن الجمال أو ما تبقى منه منذ أن سكتنا على أن تتمدد الواجهات العشوائية لتغطى نصب وتصاميم الجمال المعمارى والنصب والتماثيل لفنانين عرب من بغداد مرورا بدمشق وحتى القاهرة.. نحن مدانون منذ أن وافقنا أن تطغى بلد اللاحضارة وتغرز لا ثقافتها ولا حضارتها مع جيوشها ودباباتها فى عمق مدننا التاريخية وبيوتنا العتيقة المعجونة بكثير من الذكريات والصور واللحظات الخاصة.. نحن مدانون لأننا تصورنا أننا كلنا نيويورك بناطحات سحابها وأن تلك المبانى الزجاجية هى الأنسب لطقس لا يعرف سوى حرارة الشمس ودفئها فى الشتاء.. نحن مدانون عندما تصورنا أن بيوت الطين التى بناها كثيرون من أحبتنا بعرقهم وربما بعض دمهم تمثل شيئا من «التخلف» فعلينا أن نمحيها عن سطح الذاكرة وباطنها! نحن مدانون عندما تصورنا أن حقوق الإنسان هى فى الحريات السياسية وحرية التعبير فقط ولم نشملها بالحقوق الثقافية ومنها حقنا فى المحافظة على مدننا وشوارعنا ومبانينا وحضارتنا وغنائنا وموسيقانا وملابسنا وأكلاتنا التى زحفت إسرائيل لتسرق بعضها أو كلها و.. و.. و..