بقلم - خولة مطر
فى محاولة لإخفاء غضبه أو ربما خوفه أو بعض خنوعه سألها «ألم تتعبى؟» وعندما ردت بسؤال، كان تصادم الأسئلة. ردت بالقول: «أتعب من ماذا؟ أو من من؟» فكان عليه أن يجيب محافظا على نفس الدرجة من اللباقة ورباطة الجأش أو ربما التمثيل بأنه هادئ كنهر النيل فى ساعات الغروب، وبعد بعض تفكير وبشىء من التذاكى أرجع السؤال إلى مصدره وهى تقنية يستخدمها كثير من المخبرين أو الضعفاء أو بعض الخائفين أو الخانعين.. قال: «ألم تتعبى من مشاهدة القتل والموت والدم على قارعة الطرقات فى غزة؟».. بعدها دخلت مع صديقها فى حلقة مفرغة من الأسئلة، كانت قد حاولت أن تتفاداها منذ عقود طويلة عندما قبلت بأن تبقى الصداقة بعيدة عن القناعات والمواقف أو ربما المبادئ.
• • •
تطاير الوقت مع تطاير الأسئلة وكأنهما فى مسابقة طويلة المسافات فى كسب الوقت قبل الاصطدام.. حتى لم تستطع أن تتحمل فقالت «ماذا تقول؟! هل نتعب من مشاهدة موت أحبتنا وأهلنا فى غزة؟ وماذا عنهم؟ عن حياتهم اليومية فى البحث عن قطرة ماء وربع رغيف خبز وربما شىء من الابتسامة حتى يمضى اليوم الطويل تحت القصف، يدارون خوفهم وفزعهم إن لم يكن على أنفسهم فعلى أحبتهم، كل أحبتهم وأحبتنا؟»
• • •
راح الحوار بعدها فى دهاليز الموت والقبور الجماعية والأكفان والأسماء التى تكتب على الأكفان حتى يستطيع الأهل والأحبة أن يتعرفوا على بقعة يذرفوا أمامها كثيرا من الدمع، ويقرأوا الفاتحة أو يرتلوا تراتيل الفقدان والموت.. حاول هو الظهور ببعض الواقعية التى تحولها هى إلى مجرد «امرأة عاطفية» ككل النساء، ألا يقال فى أوطاننا أن الدموع للنساء؟ ولكنه ذاك الخارق لكل صورهم الباهتة أو تصاويرهم عنا، ذاك الملتحى والمتشبث بعمامته وابتسامته أيضا وهو يقبل عينى حفيدته روح الروح، ألم يسقط هو وكثيرون من أهلنا فى غزة كل تلك الادعاءات بل الأكاذيب عن أن الرجال عندنا لا يذرفون الدمع فهو من شيم النساء؟!
• • •
توغل الحوار بينهما حتى أحست أنهما قد يصلان إلى التصادم أو القطيعة، تلك التى أصبحت الشكل السائد بعد السابع من أكتوبر عندما قال بعضنا إنها ليست إبادة، وهو ليس قتلا متعمدا ومحاولة للقضاء على شعب جذوره فى باطن أرض فلسطين.. حينها توقفت هى محافظة على بعض ما تبقى من مودة وسنوات من الصداقة.. ولكنها لم تستطع أن تكتم بعض غيظها من نمط تفكير بدأ يسود حتى وسط أكثر الذارفين للدمع على دم غزة بل هو دم كل فلسطين. وفى محاولة للتخفيف من ألم اللحظة الذى لا يضاهيه سوى وجع فلسطين الباقى منذ ما قبل 1948، حولت الحوار بينهما وتفصل بينهما فناجين قهوة وكثير من الألم.. كيف تكون الصداقة ما بعد غزة وفلسطين أو أى رفقة دون أن تكون فلسطين بوصلتها؟
• • •
وفيما راح هو يذكرها بأيامهما فى الجامعة، وكيف التقيا عندما كان يرى أن الخليجيين القادمين للجامعات هناك كلهم ــ نعم كلهم ــ مجرد مخلوقات نفطية تستهلك ثم تستهلك ثم تغنى وترقص أو تسافر للتبضع فى لندن.. بقيت هى صامتة تبحث عن أوجه الشبه التى جمعتهما فى صداقة ممتدة لأكثر من ثلاثين عاما.. صمتها لم يسعده كما كل المتخاذلين أو الخائفين أو ربما كثير من الانتهازيين، راح ينبذ الحروب ويشد عليها ليستفزها أو يثير نقاشا حادا ليثبت أنها كما كان يسميها أو يسميهم «الثوريون واليساريون» لا يعرفون النقاش، فقط الصريخ.. هو الذى كان يصرخ فى وجهها عندما كانت تذكره بأن ما تقوله ليس فكرا «ماركسيا ولا يساريا ولا قوميا ولا أى شىء سوى التصاق بإنسانيتها بل إنسانيتنا» أو ربما هو الحق عندما يحاول البعض أن يحوله إلى فكر متطرف بتلاوين التطرف فى مفهومهم.
• • •
استفاقت من صمتها بابتسامة وبعد أن حاولت أن تفسر محاولاته الاستفزازية أو تعطيه بعض التبريرات المبنية على سنوات الصداقة، لم تستطع سوى أن تذكره بأن تعبها أو ربما الأصح وجعها لا يرقى لمدى أوجاع وتضحيات أهلنا فى غزة بل فى كل فلسطين.. وأنها وكثيرون مثلها العاجزون فى أوطاننا العاجزة أو المتساقطة أو المتآمرة أو حتى الضعيفة، لا يستطيعون أن يفعلوا سوى ذلك أى أن يستمروا فى وضع فلسطين على قائمة أولويات حياتهم فى تفاصيلها كلها منذ قهوة الصباح مرورا بكل أكلهم وشربهم ومشاهدتهم وأوقات فراغهم وكل تفاصيل التفاصيل. فعند اختيار الملبس والمأكل ووقت المرح تبقى فلسطين وأهلها بل أهلنا حاضرة، نسأل هل هذا فى صالحهم؟ أو هل هذا يبقى شعلتهم التى يقدمون كل ما يملكون بل حياتهم من أجلهم هل ما أقوم به يضاهى أيا من ذلك؟ وبالطبع تكون الإجابة بالنفى ونسقط جميعا فى أضعف الإيمان وهو أن نبقى إبادتهم على رادارات هذه اللحظة، وأن ننشر وجعهم رغم الألم والدمع وأن نتسمر ساعات نتابع تفاصيل الإبادة حتى نسجلها فيما يذهب أولئك البعيدون عنهم فى أقصى الجنوب الإفريقى أو جنوب إفريقيا لأخذ الخطوة الأهم، وهى إدانة المجرم القاتل الصهيونى بجرمه فى الإبادة الجماعية والقضاء إلى الأبد على روايتهم الكاذبة منذ سبعين عاما ونيف.
• • •
فجاة انتفض صديقى من هدوئه المعتاد وسحب هاتفه النقال ورحل، ربما دون عودة لم يكن الأول ولا الأخير.