بقلم - خولة مطر
والعام يعتزم الرحيل أو يوصد أبوابه ويرحل، يترك لنا مساحات مكتظة بصور من المذابح المتنقلة من بيت لبيت، وشارع لشارع، ومدرسة لمدرسة، ومستشفى لمستشفى، وجامع لجامع آخر، وكنيسة لأخرى، وهكذا تطارد صواريخهم وأدواتهم «الحديثة والذكية جدا!» كل الأرواح الواقفة فى وجهها بلا سلاح سوى ربما اليقين أن الحق معهم.
• • •
يكاد أن يمحو أى مسحة بيضاء مرت فوق سحابة فى سماء غير مكتظة بغبار دمارهم، حاملة معها كثيرا من الأجساد الضعيفة والأرواح الملائكية البريئة.. لم تعد هناك أى ذكريات أو صور لـ 2023 أكثر حضورا من تلك الأسماء كلها؛ لأطفال وأمهات وزوجات ورجال وصحفيين ومسعفين وأطباء وصانعى الرغيف عندما شح الدقيق بأوامر عليا من الصهاينة وكل حلفائهم المعلنين والصامتين أيضا، كلهم تلطخت أيديهم بدماء أطفال غزة حتى آخر يوم على وجه هذا الكون.
• • •
يغادر العام دون أمنيات سوى أن تتوقف الإبادة، هكذا يصرخ كُثر منا، ممتدون نحن أيضا على مدن الكون كله بل ربما نحن أكثر منهم، ولكننا دون أسلحة على اختلاف أنواعها بما فيها سلاح النفط المال والسلطة والقمع والهيمنة الكاملة على الاقتصاد والإعلام حتى تصبح التغريدة جنحة أو جناية حسب ما يراد لهم أن يصفوا الجرائم، أليس هم من نزعوا كل المصداقية عن كل تلك التشريعات والأنظمة والقوانين التى قرر البشر أن تكون هى حكمهم منذ أن أوصدت الحرب العالمية الثانية أبوابها، أو حتى قبلها بسنوات طويلة منذ الأديان السماوية والتشريعات شرعت فى تنظيم علاقة البشر بالبشر حتى لا يعم الظلم، لأنه السلاح الأوحد لنهاية البشر فلا استدامة للظالم ولا خنوع للمظلوم إلى الأبد؟
• • •
تعرف أن 2023 كانت سنة وستبقى مغلفة بعذابات الفلسطينى والفلسطينية، ونحن معهم نتابع دقات قلوبهم بوجع العاجز عن الفعل سوى أضعف الإيمان وهو بعض الاحتجاج والاعتصام والتواصل عبر شبكات التواصل الاجتماعى، والأهم هو ألا يبقى الغزاوى وحيدا يعيش الموت اليومى جوعا أو قصفا أو عطشا، ولا متابع لأن بعضهم قد تعب من كثرة مراقبة الموت المتحرك فى شكل ووجه طفلة بريئة! نعم البعض يبرر له ولغيره بأنه أو أنها لا تستطيع تحمل كل هذا القتل المباشر على شاشات التلفزة وأمام العدسات فيما هم ــ أى أطفال وشباب وشابات وصحفيى غزة ــ يطالبوننا بالمتابعة حتى لا تغلق صفحاتهم أو تصبح المذبحة جزءا من نشرة الأخبار التى تضم أيضا حفلات واحتفالات بأعياد بعضها وهمى ويدعو للسخرية، والآخر لا طعم له، والدم الفلسطينى الإنسانى لا يتوقف حتى لأخذ نفس لبعض الحياة! فعل المتابعة هو أحد أعمدة التضامن مع الفلسطينيين، ونشر الخبر مهما كان صغيرا لعائلة تم قتلها بل إبادتها وبعد أن كانت تجمعهم صالة منزل صغيرة حول أكواب المرامية، صارت تجمعهم حفرة فى الأرض قيل إنها مقبرة جماعية لهم وكتبت أسماؤهم فوق أكفانهم البيضاء كبياض قلوبهم المؤمنة والصامدة والحاضرة بهم حتى بعد الموت!
• • •
بين لحظة وأخرى بل دقيقة ودقيقة ترحل سنة وتبدأ أخرى والبشر يبحثون عن بصيص يوقف الدم وليس بصيص أمل للنصر، لأنهم قد انتصروا ربما بثمن باهظ ولكن هى الأوطان التى لا تتطهر إلا بدم أبنائها وبناتها... تتفاجأ حينها وأنت تبحث عن سيناريوهات اليوم التالى كما يسمونه أو ما بعد الصاروخ الأخير والشهيد أو الشهيدة الأخيرة، تجد أن بعضهم لا يخجل من نشر تذاكر ليلة رأس السنة فى هذه المدينة العربية أو تلك بأسعار لو سمع بها وائل أو أحمد أو ياسر فى قبره لأصيبوا بكثير من الفزع، فهذه المبالغ لتذاكر ليلة رأس السنة قد تطعم أطفال غزة وتضمد جراحهم وتوفر لهم الأطراف الصناعية والعناية النفسية وغيرها من كل أساسيات الحياة بعد الحرب أو خلالها... كم مفزع أن ترى من يسكن قريبا منك بل هو الأقرب فيما هو الأبعد عنك وعن وجعك؟.. هل بقى من تلك العادات القديمة أى أثر أو سراب على هذه الأرض الممتدة عندما كان الجار يخجل أن ينصب الصوان لفرح أو عرس ابنه فيما جاره لا يزال يعيش الحزن على فقيد مات موتة آمنة فى فراشه، وليس طفلا فى خان يونس تطارده آلة الحقد الصهيونية حتى آخر نفس أو آخر رجل أو آخر عين أو يد؟! ماذا جرى لنا حتى أصبحت الحياة ليلة صاخبة بآلاف الدراهم أو الدنانير أو الجنيهات والظلم والعجز والموت يسكن الكون؟.. قد يقول أحدهم لابد للحياة من أن تستمر أليسوا هم، أى الشعب الفلسطينى، من علمونا وحفظنا منهم أن نحب الحياة أيضا؟ نعم كلنا نحب الحياة بعزة وكرامة وعدل وكلنا لن نستطيع أن نعرف الحياة والفرح بعد السابع من أكتوبر قبل أن تتوقف الإبادة لأهلنا، وقبل أن يعيش الفلسطينى والفلسطينية فى وطنهما هما وتعود لهما أرضهما وبيتهما وشجرة زيتونهما فى عكا ويافا وحيفا ورام الله وكل فلسطين، كل شبر منها.