بقلم - خولة مطر
وكأنهم قد عاهدوا أنفسهم أن يدفعوك إلى حدودك القصوى أو استفزازك حتى آخر قطرة من صبرك أو صبرنا جميعا. كلما قلت أنك جالس هناك فى أقصى زاوية فى الغربة بين روحك ونفسك وبعض ماء البحر وما تبقى من الأحبة بعد رحيل الكثيرين، اقتحموا هم تلك المساحة اللامرئية واللاإشكالية أو صدامية التى أبقيتها أنت بإرادتك أوربما ببعض ما تصورت أنه نضج يفرضه العمر وسنوات الخبرة وكثير من التعب والملل.. عندما كانوا يقولون لك وأنت شابة قادمة من زحمة قلب اللحظة، أو هكذا تصورتى فى حينها: «إذا ما يعجبك روحى بلطى البحر» كانت ضحكتك تصل إلى ما بعد الموجة الأخيرة لأنك ونحن كنا نتصور أن البحر لا يبلط.. سذج كنا وها هو البحر يبلط بل يتحول إلى مبانٍ شاهقة وعمارات بزجاج وبيوت ممتدة، حتى أن الموجة رحلت مع آخر نورس كان يلتقط وجبته اليومية من ذاك البحر نفسه.
• • •
تتصور بسذاجة أيضا، أننا قد نختلف فى الكثير من الأمور حتى نتصادم أحيانا، إلا أنك لا تتصور أن ما تم الاتفاق عليه كثقافة أو ممارسات يومية مشتركة لن تتغير حتى يدخل عليك أصغر أفراد العائلة أو أصغرهم فى مكان العمل أو الشاب اليافع القادم من تلك الجامعة العريقة التى راكمت خبرة وتعليم من أول من أسسها مرورا بأجيال وأجيال، يدخل ليلقنك درسا فى المعرفة والفهم الحديث بناء على نظريات كثير منها نيوليبرالية أو حتى تلك المرتبطة بثقافة مختلفة جدا عن ثقافتك وثقافة محيطك الواسع ولا ينسى أن يلوى لسانه بعض الشىء بالإنجليزية أو الفرنسية ليثبت أنه أكثر معرفة وعلم و..و..!
• • •
تعيد التذكير بتلك الثقافة أو لنسمها الإحساس العام المتفق عليه حتى يفتح ذاك الرجل شباك سيارته ويرمى قشر الموز وعلب المشروبات من النافذة التى خرجت رءوس أطفاله منها وهو مبتسم بل سعيد جدا بهم وبه! يدخل البعض مساحات من الاكتئاب فى البحث عن ذاك المتفق عليه الذى بدأ يتلاشى بشكل سريع. قديما قال أهلنا: «أكبر منك بيوم أعرف منك بسنة» أو ربما هى سنون.. الآن كل من يتقن لغة أو يستشرق بعض الشىء أو يردد نظريات بعيدة أو حتى يفوز برضاء نخبة الموضة أو الثقافة الغربية، هو أو هى قد وصلوا لأعلى درجات الفهم ويتم وضعهم على منصات تبدو ببريقها مغرية رغم أنها من ورق.
• • •
كثيرون ينغمسون فى الحشد وهم علمونا أن «حشد مع الناس عيد» حتى علمتنا الأيام بسمواتها الداكنة أن الحشد ليس عيدا أبدا ولا يأتى فى الكثير من الأحيان بالفرح ولا النمو أو حتى الاستقرار.. بعدت المسافات بين الحشد والناس بتأوهاتهم اليومية ومعاناتهم البسيطة حتى الموت.. هناك حالة من الفصام الجماعى تطاردك أو ربما هى حالة خاصة جدا فكلما زاد الوجع بكثير من الاستكانة البلهاء أو الخائفة أو التائهة أو حتى الاستكانة الناتجة عن غرور شديد كمن يقول: «أنا المعرفة وأمها وأنتم مجرد قطعان من الجهل!» كثيرون من محدثى التعليم والمنصب والمعرفة، نعم هناك محدثو العلم كمحدثى المال والثروة، هم يتصورون أو يخال لهم أنهم قادرون على تلقينك دروسا يومية ليس فى حاضرك فقط بل فى مستقبلك وماضيك أيضا.. يرددون عليك ما الذى استفدته من انغماسك فى واقعك ومحيطك ومبادئك، انظر حولك ما الذى فعله ذاك بك الآن وأنت لست فى منتصف العمر بل فى المنعطف الأخير منه، وأحبتك يتساقطون الواحد والواحدة تلو الأخرى حتى تمنيت أن يوصد باب الوجع هذا أو يقفل مؤقتا أو حتى إشعار آخر. عندما تستطيع أن تعيد ترتيب تلك الأوراق والمشاعر المبعثرة وتعترف بأنه ربما خلل فقط أو مرحلة رغم أنك تعرف حتما أن البحر الذى بلط ستهجره أمواجه وأسماكه وكل سكانه، وأن المحبة عندما تتحول إلى دفاتر حسابات مرتبطة بكم مرة سألت علىّ لأسأل عليك وعنك، أو كم مرة قدمت لى خدمة لأعيدها لك، حينها يبدو أنه حان وقت أن توصد الباب بإحكام حتى لا تصاب بذلك الفيروس الأكثر خطرا مما سبقوه وما سيأتى أو ما يتم تصنيعه الآن!