بقلم: خولة مطر
تأتى الدعوة بخجل شديد من شخص لم ألتق به إلا منذ لحظات. يقول بتلعثم: ابنتى ستتزوج بعد أيام وسنكون سعداء بتشريفك، وكان الرد الطبيعى: «وأنا أيضا»، تلعثم مرة أخرى وقال: ولكن الزواج فى الكنيسة فلم يجد أى علامات للتعجب أو تغييرا فى ردة الفعل، بل على العكس فطقوس الزواج فى الكنائس العريقة أكثر خشوع وتعيد التذكير ببعض ما كان يقال لنا عن مؤسسة الزواج التى تعرضت للكثير من الخراب والخسائر الفادحة حتى أصبح الطلاق هو الحاكم الأول والأخير فى كثير من العلاقات الزوجية.
***
تخوف الأب المسيحى فى دعوته وتردده ما هو إلا تعبير عن ما وصلنا له فى دولنا من خطاب معادٍ للمسيحيين ثم لكل الأقليات، ولكن المسيحيين هم الأكثر خوفا وكنائسهم تنتهك وتحرق بل تطالها التفجيرات فى فترات الأعياد الأكثر قدسية، لا حرمة لدين هو أحد الأديان السماوية، ولا لبشر كانوا إخوة وجيرانا وزملاء عمل وأصدقاء لم نكن نسأل عن دينهم سابقا ولم نكن نعرفه.
***
هرب المسيحيون من دولنا، رحلوا خوفا من القتل أو التنكيل أو الاضطهاد باختلاف أنواعه أو حتى من ترداد كلمة نصرانى، بمعنى يوحى بالسلبية.. هربوا إلى بقاع الأرض وهم من كانوا جزءا من ملحها وكثيرا من ثقافتها وحضارتها التى ميزتها عن الكثير من بقاع الكون.. هربوا ومعهم كثير من تاريخنا وحتى لغتنا، ألم تكن الكنيسة هى من حافظت على اللغة العربية. رحلوا وتركوا خلفهم تراثا نفتقده، تركونا للون واحد رمادي هو كما كثير من تفاصيل حيواتنا. فالجلوس بين عالمين متناقضين هو من شيم أهل العرب فى هذه المرحلة الحرجة. بعضنا تباهى بأنه أكثر تقبلا وتسامحا، وفى الكثير من ذلك بعض التودد والتقرب من الغرب الذى فصل الدولة عن الدين منذ قرون، أو حتى محاولة لصبغة هذا البلد أو ذاك بصبغة الحضارية فى التعامل. أما آخرون فلم يستطيعوا حتى رفع الصوت عندما نكلت داعش وأخواتها بالمسيحيين ورفعت الشعارات المغيتة، فجلسوا هم يتفرجون بل تجرأ آخرون للقول إن كلامهم هو كلام القرآن الذى لا يذكرون منه إلا الوعيد والتهديد والتخويف إما أن تفعلوا هذا وإلا لكم جهنم وعذاب المصير!
***
طورد المسيحيون حتى تحولت نسبتهم من 20% من سكان المنطقة قبل عقد إلى 2% حسب بعض التقارير، وتحولوا إلى مجرد أقليات لا حق لهم فى ممارسة طقوسهم أحيانا أو حتى فى بناء دور عبادتهم، أو تصبح الأخرى هدفا لقنابلهم والتعبير عن كراهية لطالما تعششت فى عقول البعض من رواد الجوامع بأئمتها المتطرفين.. عندما تركت المساجد فى عهدة الجهلة وأنصاف المتعلمين والمفسرين للدين حسب رؤيتهم الضيقة تحول كثير من الشباب إلى التطرف وإلى الحقد على الآخر، وكأنه العدو اللدود.. تقلص العراقيون فى العراق ثم انتقل ذلك إلى كثير من دول الجوار كلما أصبح خطاب الكراهية هو السائد.. وأصبح المسيحى يخبئ صليبه حتى لا يعاقب على ذلك لأن بعضهم نشأ فى بيئة كانت تكرر على مسامعه أن حاملى الصليب هم كفار!
***
هناك روايات وقصص عن قصص حب محرمة تجاه المسيحيين، عن أطفال يرفضون دخول الكنائس أو ينامون تحت الصليب.. عن أسئلة تبدو ساذجة ولكنها مغمسة بالعنصرية وكراهية الآخر يطلقها بعض المسلمون عند لقائهم بمسيحيين.. عن زمن أصبحت فيه التهنئة بعيد الفصح كفر أو «تقاليد غير محببة».. عن وظائف تحرم على المسيحيين ويفضل فيها المسلمون وكأنهم مواطنون منزوعو الحب والولاء للوطن، فالمسيحى متهم حتى يثبت براءته.
المحزن أن هذا لم يكن وضع بلداننا قبل عقود بسيطة بل على العكس كان المسيحيون جزءا من نسيج مجتمعاتنا، وكثير من الأعمال الدرامية القديمة جدا كانت ترسم شخصيات متنوعة فى الحى الشعبى أو المدينة. وكان من النادر أن يعرف الصديق ديانة صديقه بل هو من العيب أن تسأل عن الديانة أو الطائفة، السؤال الذى أصبح عاديا جدا بل ممجوجا عندما تتعرض لأسئلة من هذا القبيل، خاصة أن الكثير من مسيحيى الشرق قد حملوا أسماء عربية عريقة.
***
عدت للأب بعد أن سرحت فى حالنا المحزن ورددت أنه لشرف لى أن أحضر زفاف ابنتك فى الكنيسة، ابتسم ابتسامة عريضة عبرت عن كثير من الامتنان، ولكنها غمست ببعض من الحسرة.