بقلم: خولة مطر
الجادة الخامسة بمدينة نيويورك وعدسة كاميرا أحد المارين بسياراتهم تنقل مشهد لا سابقة له فى السنوات الأخيرة وهو أن تتحول ضوضاء ذاك الشارع إلى صمت وواجهات المحلات الفخمة إلى ألواح خشبية كأنها بقايا تابوت.. يأتى الصوت المندهش «انظروا.. انظروا كل المحلات أصبحت عبارة عن صناديق من الخشب إلا ذاك البوتيك الفخم» والإجابة واضحة لأنه يقع فى برج الرئيس ترامب حيث الحراسات المشددة.. تعلو الأصوات فى شوارع نيويورك وعشرات من المدن الأمريكية، أصوات أقوى من صواريخهم وقنابلهم وكل أسلحتهم التى هتكت كرامة مدن عديدة وحولتها إلى بقايا مكان بل سلبت أهلها كل ما تبقى لهم من عزة..
***
تحمل الرياح أصوات الغاضبين إلى ما بعد المحيط، بل ربما همساته هو ورأسه تحت حذاء الشرطى الأبيض وعيناه محدقتان فى الفراغ «لا أستطيع أن أتنفس».. ثمانى دقائق و46 ثانية هى، كم أصبحت حياة الكثيرين رخيصة، ربما الأصح أن يقال أنه لا تتساوى حياة مع حياة.. لبعضنا أثمان أكبر وآخرين لا ثمن لهم، جثة أخرى ترقد فى برودة المشرحة ومن بعدها يضمها تابوت ترمى عليها حفنة من تراب ويقفل الملف.. رقم آخر هو، كم وصلت أعدادهم؟ بعضهم يسحق تحت الحذاء أو برصاصة ممن هم معنيون بالمحافظة على الأمن والسلام فى المجتمع!! وآخرين هم حطب الحروب المتناثرة والتى لم تستثنِ أحدا، لا عرق ولا طائفة ولا لون ولا ديانة ولا قومية.. كلهم أعداؤنا، رددوا بل كلهم يكرهوننا ويحقدون على حلمنا الجميل.. روجوا الكذبة الكبرى.. ما يعرف بالحلم.. فصدقوه هم وكثير من فقراء ومعوزى العالم..
***
ليس هو الأخير حتما وبالتأكيد ليس الأول، العنصرية داء متفش بل إرث لكل تلك الإمبراطوريات التى غابت عنها الشموس ورحلت عنها الأقمار وعاشت هى تملأ كتب تاريخها وتاريخ الشعوب التى استعمرتها وأذلتها، بكثير من الأمجاد والبطولات حتى نتذكر أسماءهم ونرددها أكثر من رجالو نساء رفعوا الصوت حينها كما هو حال المنتفضين الآن، الراغبين فى التخلص من هذا الوهم، الرافضين لأفلام هوليوود التى كرست الأفريقى الغبى والمكسيكى المجرم والآسيوى المحتال والعربى فوق جمله والمسلم مع إرهابه والروسى الفاسد الذى لا يغسل سوى أمواله.. أما الهندى الأحمر المواطن الأصلى لذاك الوطن فقد كان ضحية واضحة لعنصرية لم تنتهِ أبدا بل كرست عبر الاندساس بين تكنولوجيا السينما الأمريكية الرائدة!
***
من يدعوا إلى الديمقراطية والحضارة والمدافعين عن حقوق الإنسان ما هم إلا أحفاد سارقى الأراضى ومغتصبى نساء المستعمرات، ومشاهد تعذيب من يقاومهم لا تزال راسخة فى الذاكرة الشعبية، فكيف نستطيع نسيان أبو غريب وجوانتنامو وهذه حديثة جدا ودليل قاطع على تمسك الأحفاد بطباع و«أخلاق» الأجداد والمحافظة على ذاك التراث.. هم يرددون أننا قمنا بذلك لإنقاذ شعوب بأكملها من تخلفها وجهلها وظلم ذوى القرب.. وهنا بدأت الحكاية ولم تنتهِ فصولها بعد، رواية طويلة من العتمة.. أما المفردات فهم الأكثر ابتكارا لها. مفردات ترسخت فى قاموس لغات العالم ربما بإدراكنا أو حتى لأن العبديقلد مستعبده دائما بل يقدسه أحيانا.. مركب آخر من مركبات نقص تجاه الرجل الأبيض الذى بعد نهاية استعماره القديم بأنماطهو سبله، تحول إلى أشكال مستجدة ومحدثة منه.. استعمار الاقتصاد والثقافة واللغة والمرجعية الأخلاقية وازدواجية المعايير المتوارية والكيل بمكاييل مختلفة وإغلاق نوافذ وأبواب المؤسسات الدولية عليها فقط، على تلك التى انتصرت بقنابلها وأسلحتها الفتاكة وأركعت العالم كما قام ذاك الشرطى الأبيض بوضع القدم على رقاب الشعوب وقطع الأكسجين حتى تخرج الروح مع آخر نفس..
***
المذهل فى كل ذلك أن يردد البعض «ما كل هذا العنف«؟! وفى الوهلة الأولى تتصور أن السائل يقصد الشرطى الأبيض الذى قتل الرجل الأسود، فيصدمك الرد أنه عنف المتظاهرين وسرقتهم للمتاجر الفخمة ومنها بل على رأسها محلات آبل.. يستغرب البعض أن يسرق أحدهم هاتفا يكلف مائة دولار أو أقل ويباع بألف أو أكثر، بل ينكرون حق الغاضبين فى ردة فعل غير مدروسة فى تحطيمهم واجهات المحلات والمبانى ولا يستنكرون النهب العلنى اليومى من حكومات ومؤسسات عالمية وشركات ما فوق القانون.. عجبي!!
***
أما «المندسون» فهذه صفة أو حجة توزع على الزعماء بالتساوى، ورقة تأتى مع توليهم لمناصبهم وبإمكانهم سحبها متى شاءوا ويرددونها حتى يصدقهم بعض السذج وعبيد السلطة.. ربما هى ليست فقط صرخة فى وجه العنصرية بل فى وجه عنف الدولة وعنف الاستعمار الاقتصادى وعنف الظلم المتفشى.. ففيما يردد المتظاهرون والمعتصمون والغاضبون «لم نعد قاردين على التنفس، فقد خنقتم آخر أحلامنا وفضائاتنا» يقولون هم «كم أنتم فوضويون، زعران، لوفريه وبلطجية» وغيرها من الأوصاف لكل هذه الشعوب المنهكة من تراكم الظلم..