بقلم: خولة مطر
كلما تحدث المتحدثون عن الواقع العربى أو العام يذكرون بوقائع كانت مخفية حتى تقاعد أو استقال أحد المسئولين الكبار فى عواصم «صنع القرار» أو «الأخ الأكبر» فما لبثوا وأن كشفوا عن تفاصيل محادثات ولقاءات بقيت ضمن نطاق السرية جدا فى غرف موصدة الأبواب بإحكام.. وليس أمتع من أن يستطيع المرء أن يتذكر موقفا أو قرارا مصيريا ويكتشف أن الوصول إليه قد استغرق لحظات أو أن كثيرين شاركوا فى صنعه حتى من يدعون بأنهم ضده!!! وفى كل هذا الكم من المذكرات لا يمكن إلا أن يكون كسينجر على رأس القائمة.. حيث تعد مذكراته مرجعا لمرحلة تاريخية هامة، بل لمراحل ليس فقط بالنسبة لمنطقتنا أو البقعة المظلمة من العالم الذى تعليه موجه وتطيح به أخرى فيما القائمون على صنع القرارات فيه ملهيون بأمور أخرى!!!
***
كل هذا الكم من الكتب التى تكشف حقائق عن الأصدقاء والأعداء أو «الأصدأعداء» لا يقرأها الكثيرون منا بشكل جيد أو متمعن إلا ليزينوا بها مجالسهم وأحاديثهم المطولة عن مدى معرفتهم واطلاعهم لكواليس صنع القرار فى «مطابخ» بعيدة جدا عن حدائقهم الخلفية.. أما هم، مسئولونا هنا فما أن يعزلوا من مناصبهم، ــ فالمسئول فى الكثير من الأحيان إما يتوله الله أو ينبذه البلاط ــ إلا ويتحفوننا بمقالات مليئة بخطط ونصائح لإنقاذ الاقتصاد مرة، والثقافة أو التعليم أو الصناعة أو التجارة أو أو أو. وليسوا هم الوحيدون فالكثير من الموظفين الدوليين لا يختلفون عنهم فى محاولة البقاء تحت ضوء ما حتى ولو كان فانوس مكسور فى زقاق!!!
***
وربما يتعلم المرء من تجاربه، وآخرون يستطيعون الرؤية من زاوية أخرى عندما يتحررون من ثقل المنصب أو حتى فقط أن يستطيعوا أن يعبروا عن رأى أو موقف كان سيكلفهم الكثير بما فى ذلك حياتهم أحيانا!!! ولا يملك أى شخص أن يمنع عنهم أو عنهن هذا الحق ولكن ألا يبدو الموقف غير مبرر أو مفهوم عندما لا يقوم من يفتى فى قضايا الاقتصاد مثلا أن يعتذر قبلها لأنه قد فشل فى وضع خطة متنوعة للاقتصاد تبعد عنه شبح الإفلاس المتكرر أو «استعباد» سعر برميل النفط حتى أصبح كثيرون لا يبدأون يومهم إلا بالسؤال المكرر منذ البئر الأولى فى تلك الصحراء العطشى.. لا يكشف ذاك المسئول المعتق عن بعض الصناديق السوداء المخفية أو بنود الميزانيات فى الخزائن الذهبية المخفية عن الأعين!! لا يكشف عن سبب تسرب بلايين الدولارات والدنانير بعد سنوات من انتعاش أسعار تلك السلعة الوحيدة...
***
إذا كان الاقتصاد «خطا أحمر» فماذا عن الثقافة والإعلام والتجارة والصناعة والعمل والشئون الاجتماعية والسياسة السكانية والتخطيط أو التخطيط العمرانى؟؟ كلها أسرار كونية لا يمكن الكشف عنها؟؟ يستطيع أحدهم وهو الواقف عند حافة قبره أن يكشف عن مخابئ غض العين والطرف عن الصرخات المتكررة منذ السبعينيات أو ما بعدها بقليل وذاك الإغراق للعمالة الوافدة «الرخيصة»!! ولا أن يقول أين تبخرت مخصصات الأسر المحتاجة؟؟ أو كيف توزع المساكن والأراضى؟؟ أو هم لا يتقنون إلا فن النصح الممجوج والتنظير لسياسات أكل عليها الدهر وشرب أو حتى التبجح بأن أصواتهم قد بحت فى الاجتماعات الوزارية أو فى مجالس الإدارة أو فى تلك المنظمات الدولية العريقة حيث الدراسات والبحوث أكثر من سلل الغذاء والأدوية للمحتاجين!!
***
بعضهم يتخطى النصح ليتحول إلى «معارض» ويرفع الصوت عاليا، فيصفق العباد ويعلو الهتاف فما هذا المعارض المقدام والذى كان قبل سنوات حاجبا برتبة وزير مع الاعتذار للحاجب طبعا.. وقع بنفسه قرارات دمرت التعليم لسنين وركعت الاقتصاد تحت وقع العقار والدين من صناديق ومؤسسات أحكمت قبضتها على رقبته حتى لم تترك له إلا ما يكفى لبقائه حيا!! أو ذاك الذى قتل المزارع الواسعة ورحّل الفلاحين قسرا إلى مدن الصفيح ودمر الصناعة وكأنه ينتقم منها ومعها تبخرت تلك الطبقة التى تتغنى بها كتب التاريخ ألا وهى «البرجوازية الوطنية» تلك التى عندما قيل لها إن زراعة الكيوى أكثر ربحا من القمح أو القطن أو الأرز أو أقنعهم ذاك الخبير بأن شعوبهم بحاجة إلى «الأفوكادو» أكثر من حاجتها لرغيف الخبز!!! أولئك الذين رفعوا الصوت عاليا بالرفض حتى اقتلعتهم الرياح القادمة من الأهل قبل الأغراب.. أولئك الذين تركوا خلفهم بعضا من بصيص نور فى زمن لم يعرف سوى العتمة المستدامة..
***
لا يستطيع أحد أن يعتب على أحدهم لكونه قد نقل «البندقية» من كتف إلى آخر فهذه الأخرى جزء من تطور البشر فى المعرفة والثقافة والوقوف مع النفس ومحاسبتها أو هى تصحيح موقف خطأ.. ولكن ألا يبدو أنه من الأفضل أن يعتذروا أولا لضحاياهم الكثر من «الرعايا» ألا يبدو من المهم أن يكفروا عن بعض ذنوبهم بالكشف عن سياسة ومخطط محكم لتمزيق لحمة مجتمع ما عبر تخطيط عمرانى خبيث يفتت المفتت.. ألا يستطيع بعضهم أن يغمزوا حول المخفى من الميزانيات وأين تبخرت رغم أنهم قد يكونون بعض المستفيدين منها.. ثقافة الاعتذار لا تزال بعيدة عن مجتمعات يعتقد الكثيرون فيها بأنهم «عباقرة» فيما هم أسماك صغيرة ألقى بهم برميل نفط فى محيط متلاطم الموج وأسماك القرش تحيط بهم وهم لا يزالون يلعبون «الفيديو جيمز» منتصرين على الأعداء القادمين من مدن العلم بالحربة والسيف والخيل العربى!!!
***
الرجاء اطفأوا النور وأنتم خارجون من ذاك الباب الضيق فلا أحد يريد نوركم ولا نصحكم ولا حتى أصواتكم المبحوحة من زمن عبودية النياشين..