بقلم - عبد المنعم المشاط
يقدم كل رئيس أمريكى فى نهاية العام الأول من إدارته وثيقة استراتيچية الأمن القومي، والتى تتضمن رؤيته للنظام الدولى ومصادر التهديد والفرص المتاحة أمامه وكيفية مواجهة ذلك فى ضوء أولوياته، ويتم الحكم على الرئيس بنهاية فترته الأولى عن مدى ما حققه وما عجز عنه، وعادةً ما يطلق على رؤية الرئيس «مبدأ الرئيس» Doctrine، ومن متابعة استراتيچية الأمن الأمريكى منذ السبعينيات وحتى الآن، يستطيع المرء أن يرى بدرجة كبيرة من الدقة أن ما قدمه الرئيس ترامب لا يعدو أن يكون تجميعًا لأفكار عامة أحيانًا وتفصيلية أحيانًا أخرى لا ترقى إلى استراتيچية للأمن القومي، ولا تعكس أى نوع من الانسجام أو التوافق المؤسسي، ولا تقدم مبدأً باسم الرئيس أو بإدارته الجمهورية لأن شعار «أمريكا أولاً» لا يشكل مبدأً بقدر ما يعكس اختيارًا سياسيًا لم يتحقق، كما أن رؤية ترامب لتعاظم الدور الأمريكى (التمدد الخارجي) يتناقض مع رغبته فى الانكفاء على المصالح الأمريكية وتنميتها (العزلة عن النظام الدولي).
ويدور 07% من الوثيقة الدور الروسى والصينى المتصاعد، والذى يأتى على حساب الدور الأمريكي؛ ففى الوقت الذى تؤكد فيه مبدأ تاريخيا ثابتا، وهو التنافس من أجل القوة، وأن الصراع دائم من أجل اكتساب النفوذ، إلا أنها تستنكر محاولات الصين وروسيا صياغة نظام دولى جديد يتعارض مع القيم والمصالح الأمريكية، وإن كانت توجه اللوم إلى الإدارة الديمقراطية السابقة، والتى قررت تخفيض الوجود العسكرى الأمريكى فى الخارجى وعدم الاستثمار فى بناء وتجديد القدرات العسكرية الأمريكية، إذ ساد عندهم الاعتقاد بأن السلام قادم لا محالة، وأن الديمقراطية تنتعش فى العالم، من ثم؛ فإنه يمكن الاعتماد على القوة الناعمة بصورة أكبر من القدرات العسكرية، هكذا يرى ترامب أن الإغراق فى التفاؤل بوقوع تغييرات تحصد نتائجها الولايات المتحدة دون عناء وضياع للموارد فى البناء العسكرى أدى إلى لجوء كل من الصين وروسيا إلى تطوير قدراتهما العسكرية بصورة أكبر بكثير من معدل نمو القدرات العسكرية الأمريكية، وهكذا؛ فإن كلتا الدولتين تجنيان اليوم ثمار تفوقهما العسكرى وتسعيان إلى زيادة نفوذهما على حساب النفوذ الأمريكى فى مناطق النفوذ التقليدية للولايات المتحدة؛ كالإقليم الهندى الباسيفيكى والشرق الأوسط بل وأوروبا. وتحذر الولايات المتحدة من أن الصين تسعى من خلال الترويج لنموذجها الافتصادى إلى نشر نفوذها السياسى فى جنوب شرق آسيا، ولم يُخفِ الرئيس الصينى نيته فى أن تحل الصين محل الولايات المتحدة لهذا الإقليم الحيوى بالنسبة للصين، كما أن الصين تسعى -طبقًا للوثيقة- إلى بناء قدرات عسكرية تقليدية ونووية منافسة للولايات المتحدة، وأنها تستخدم الأدوات الاقتصادية خصوصًا الاستثمار فى البنية التحتية والصناعات الاستراتيچية لإبهار الشركاء بها، ومن ثم؛ بناء تحالفات لمصلحتها، لقد فعلت ذلك فى آسيا وفى أمريكا اللاتينية، وامتد هذا النشاط إلى أوروبا؛ حيث الاستثمار فى الصناعات الاستراتيچية والصناعات ذات الحساسية الخاصة بالنسبة للاعتبارات الأمنية، ولم تأل جهدًا فى الدخول السريع إلى إفريقيا سواء بالاستثمار فى البنية التحتية أو المشروعات الكبرى أو فى مجالات الصناعة وما يرتبط بها من تجارة، وكان ترامب يتصور أنه يمكنه أن يسيطر على الإمكانات والقدرات الاقتصادية الهائلة للقارة السوداء، وتؤكد الاستراتيچية اتهام الصين بالسطو على التكنولوچيا الحديثة مستخدمة فى ذلك شراكتها مع الشركات الصناعية الكبرى ومواطنيها وطلابها بالجامعات الأمريكية ذات السيط فى مجالات الاختراع والابتكار، وتقضى الوثيقة بضرورة تطويق جهود الصين تلك حتى تستحوذ الولايات المتحدة حصريًا على نتائج الأبحاث العلمية لشركاتها وجامعاتها، وتتهم الوثيقة روسيا بمحاولة مد نفوذها ليس فقط على الدول المجاورة لها مثل أوكرانيا وچورچيا، وإنما أيضًا على دول ذات أهمية استراتيچية مثل سوريا، وذلك باستخدام القدرات العسكرية المتطورة والأدوات التكنولوچية المعاصرة للتدخل فى الشئون الداخلية ليس فقط لتلك الدول وإنما أيضًا للدول الكبرى وعلى رأسها الولايات المتحدة، إذ توظف روسيا الأدوات المعلوماتية فى الهجوم السيبرالى على دول بعينها للتشكيك فى قيمها الليبرالية والتأثير على الرأى العام لإيجاد حالة من الشك حول قياداته، وهكذا، تسخر كل من الصين وروسيا آليات الثورة الصناعية الرابعة فى تحقيق مكاسب چيوستراتيچية غير مسبوقة إن اتهام الصين وروسيا بالإفساد والسطو على إسهامات الآخرين التكنولوچية والدعوة إلى الاستثمار المكثف فى إعادة بناء القدرات العسكرية الأمريكية يعيد العالم إلى مناخ الحرب الباردة الذى خيَّم على النظام الدولى لنحو نصف قرن، إذ يرى ترامب أنه لا يمكن تحقيق السلام فى العالم إلا بطريق القوة المسلحة، وهى دعوة صريحة إلى سباق تسلح جديد يودى بالسلم والأمن الدوليين، على الرغم من كل دراسات السلام ومحاولات تحقيقه لم تتم إلا من خلال التفاوض وإجراءات بناء الثقة.
إضافة إلى ذلك؛ فإن الوثيقة تشير إلى المخاطر التى تواجه النفوذ الأمريكى فى مختلف الأقاليم سواء الهندى الباسيفيكى أو أوروبا أو الشرق الأوسط أو جنوب ووسط آسيا، وتقر الوثيقة بسعى الولايات المتحدة إلى بناء شرق أوسط جديد ليس حاضنًا للإرهاب ولا تسيطر عليه أى قوة معادية للولايات المتحدة ويسهم فى استقرار أسواق النفط، ولتحقيق ذلك، لابد من استمرار الوجود العسكرى الأمريكى فى الإقليم، من ثم؛ لم يكن غريبًا أن يقرر ترامب زيادة القوة العسكرية فى أفغانستان والعراق وسوريا، ومن اللافت للنظر أيضًا أن الوثيقة تؤكد تغير «سوء الإدراك» الذى كان سائدًا بأن إسرائيل وراء تأخر السلام وتهديد الاستقرار، إذ برز اتفاق بين الشركاء الإقليميين للولايات المتحدة على أن الجهاديين/ الإرهابيين بالإضافة إلى إيران هما سبب الصراعات والعنف، من ثم؛ تبرئ الوثيقة إسرائيل وتفتح الباب على مصراعيه أمام التنسيق والتعاون بينها وبين الشركاء العرب، هكذا، تعيدنا الوثيقة إلى أجواء الحرب الباردة على المستوى الدولي، وربما إلى حلقة جديدة من الحروب المباشرة فى بعض الأقاليم خصوصًا الشرق الأوسط بدعوى تقليم أظافر الدول المارقة، على الرغم من أن ذلك يمكن أن يتسبب فى مزيد من التجزئة وعدم الاستقرار والإفقار.
نقلا عن الاهرام القاهريه