بقلم - نصر محمد عارف
لأول مرة منذ واحد وخمسين عاماً يحتفى قطاع واسع من المثقفين والنشطاء على وسائل التواصل الاجتماعى بنكسة أو نكبة أو هزيمة 1967، وقد جاء هذا الاحتفاء المؤلم الغريب مركزاً على حالة الصحافة المصرية التى غطت حرب 1967، حيث امتلأت صفحات الفيس بوك بصور من الصفحات الأولى للصحف القومية فى أيام الحرب؛ وهى تتحدث عن انتصارات مؤزرة توشك معها أن تسقط تل أبيب عاصمة الكيان الغاصب، بينما الواقع أن جيش هذا الكيان قد نجح فى هزيمة جيوش عربية عدة؛ منها جيوش الدول الثلاث التى دخلت الحرب: مصر وسوريا والأردن، ومن ورائها جيوش دول أخرى؛ جاءت للمؤازرة والدعم، وأن سيناء قد ضاعت ومعها غزة والضفة الغربية والقدس والجولان، وقد تزامنت ذكرى النكسة هذا العام مع وفاة المذيع المصرى الأشهر الذى سيطر على آذان العرب طوال فترة الحرب من خلال إذاعة صوت العرب، يبشرهم بزوال إسرائيل، وتحرير كامل التراب الفلسطيني، فقد انتقل رحمة الله علية الى جوار ربه فى رمضان فى نفس يوم النكسة.
والمؤلم فى هذا المشهد أن ما تداوله المثقفون والنشطاء المصريون من مواد للسخرية والشماتة والاستهزاء بالصحف القومية الصادرة أيام حرب 1967، قد تم نقله وتداوله على نطاق واسع على صفحات الناشطين الإسرائيليين، ونشطاء جماعة الإخوان الفاشلة، وتحول المشهد العام الى حفلة سخرية من الدولة المصرية، ومن صحافتها، ومن النخبة السياسية والثقافية فى ذلك الوقت، وكل من هؤلاء له أهدافه، فالنشطاء الإسرائيليون ومعهم نشطاء جماعة الإخوان يهدفون الى نزع الشرعية عن النظام السياسي، وعن الدولة، بينما المثقفون المصريون الذين بدأوا بنشر هذه الوثائق التاريخية كانوا يهدفون للدفاع عن حرية الصحافة، ويظهرون كيف أن انعدام هذه الحرية يمكن أن يقود الى مشهد من التضليل الكامل كما حدث إبان حرب 1967.
وأمام هذا المشهد الملتبس والمربك والمرتبك من الضرورى أن يتم إعمال العقل فى الحقائق الآتية:
أولاً: لا يذكر لنا التاريخ القديم أو المعاصر واقعة واحدة اعترف فيها الطرف المهزوم بانكساره، أو هزيمته أثناء سير المعركة، فلم يحدث واقعياً، ولم يكن يتصوره عقل أن يقوم المغلوب أثناء القتال بإذاعة حقائق سير المعركة التى تبشر بهزيمته.
ثانياً: أن القوانين العسكرية فى جميع أنحاء العالم تعتبر من يقوم بهذا الفعل خائناً، يعمل لتدمير الروح المعنوية للمقاتلين، وهو يقف فى صف العدو. بل إن القرآن الكريم اعتبر ذلك نوعاً من النفاق أخطر من الكفر.
ثالثاً: إن التقاليد الثقافية الأمريكية تمنع تناول الحروب بالتحليل والنقد أثناء سيرها، وبعدها بفترة احتراما لمشاعر الأسر التى فقدت أفرادها فى القتال، لأن ذلك يعنى أن أبناءهم قد ماتوا فى حرب عبثية، وبدون هدف، وليس لمصلحة الوطن والدفاع عن أمنه وحريته.
رابعاً: إن التجربة المعاصرة للحروب - بعد كل ذلك التقدم فى الحريات وعلى رأسها حرية الصحافة قد لجأت الى اصطحاب الصحفيين مع الجنود حتى يروا المعركة من جانب واحد، ولا ينشروا شيئاً عنها بدون موافقة القيادة التى تصحبهم معها، وقد حدث هذا فى غزو العراق 2003، حين منعت القيادة الأمريكية وجود أى صحفى ليس مشمولاً برعاية قواتها.
كل هذا يؤكد لنا حقيقتين أساسيتين: الأولى أن حرية الصحافة ليست أهم من المصالح الوطنية العليا، وليست مبرراً لتدمير الروح المعنوية للجيش، ومن ورائه الشعب، وليست أكثر قداسة من أرواح المقاتلين الذين يبذلون أنفسهم حتى آخر لحظة طمعاً فى النصر، ولا يستعجلون الهزيمة حتى يوفروا بعضاً من تلك الأرواح والأنفس، وسيذكر التاريخ أن المرحوم أحمد سعيد، ومحمد سعيد الصحاف كانوا أبطالاً، قاموا بدورهم حتى آخر لحظة، وهما ليسا مسؤولين عن النصر أو الهزيمة، ولكنهما قاما بمسؤوليتهما للحفاظ على تماسك الشعب، ودعم الجيش؛ بغض النظر عن نتيجة المعركة.
والحقيقة الثانية: إن كرامة الأمة وتاريخها، وروحها الوطنية، وهوية وانتماء الأجيال ليست ورقة يتم توظيفها لمخاصمة نظام سياسى معين، أو للدفاع عن هيئة معينة مثل الصحفيين، أو لكسب معركة سياسية أو حقوقية أو مهنية معينة، لا يجوز العبث بتاريخ أمة بهذه الطريقة من أجل الانتصار للصحافة، هناك العديد من الطرق والوسائل خلاف إهانة تاريخ الأمة، والاستهزاء بأرواح عشرات الآلاف الذين ماتوا فى سيناء عام 1967، قدسية هذه الدماء أهم كثيرا من كبرياء من يعتبرون أنفسهم سلطة فوق السلطات، وللأسف جاءت قناة الجزيرة القطرية لتضع مهنة الإعلام والصحافة فى موقع آخر، حين تتحول هذه المهنة النبيلة الى وسيلة للتخريب والتدمير والفتن، يصبح من الضرورى مراجعة فكرة السلطة الرابعة، هى مهنة مثل باقى المهن الأخرى، ولا قدسية لها.
وأخيرا فلنراجع موقف كل من المانيا واليابان بعد هزيمتهما النكراء فى الحرب العالمية الثانية، هل يستعيدون هذه الهزيمة ويحتفلون بها من خلال صب اللعنات والتهم على القيادة فى ذلك الوقت؟ أم أن هذه الشعوب تجاوزت الهزيمة، ومسحتها من ذاكرتها وانطلقت نحو حالة لن تعيد مقدمات هذه الهزيمة الى يوم الدين؟ هكذا تتعامل الشعوب الحية مع لحظات انكسارها...تتعلم الدرس وتتجاوز روح الهزيمة، ولا تستعيدها أو تتغنى بها من أجل المناكفة السياسية.
نقلا عن الاهرام القاهرية
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع