الفساد ظاهرة بشرية كبرى ظهرت مع بداية حياة الإنسان على الأرض فى مجتمعات بشرية منظمة، وصاحبته طوال رحلته التاريخية، بحيث أصبح للفساد سنن ونظم وقواعد وقوانين، وأصبح من السهل معرفة متى يبدأ؟ وكيف ينتشر؟ وماهى طبقاته الجيولوجية؟ وما هى أصنافه وأنواعه ودرجاته؟، أى إن الفساد قد صار حقلا معرفيا فى حد ذاته، تتلاقى فيه علوم مختلفة من السياسة إلى الاقتصاد، ومن الاجتماع إلى علم النفس، ومن الثقافة إلى الأديان.
والفساد فى الوقت نفسه فن من أعقد الفنون وأكثرها عمقا، فيحتاج إلى مهارات يصعب اكتسابها إن لم يكن قد تربى عليها الإنسان منذ نعومة أظافره، لأن المهارات التى يحتاجها الفساد معقدة جداً، ومتشابكة جداً، وتحتاج إلى حاضنة ثقافية واجتماعية تجعلها نمط حياة وليس أمرا استثنائيا، أو خروجا عن العرف والعادة.
فنون الفساد تعيد تشكيل العرف والعادة، بحيث يصبح الفساد عرفاً وعادة اجتماعية غير مرفوضة، وأحيانا مشكورة ومحمودة، وذلك حين يصبح الفساد من قبيل الشطارة والفهلوة والذكاء والحنكة والجسارة والشجاعة، وحين يصبح الفاسدون صفوة المجتمع، والمثل الأعلى فيه، ورموزه الناجحة.
عند هذه المرحلة يتم نزع السم من الفساد، أى نزع الأبعاد السلبية وغير الأخلاقية منه، ويتم تكييفه مع الثقافة والعرف والدين، فتصبح الرشوة حقا وإكرامية، وتصبح السرقة من المال العام شطارة، وحصولا على حقوق مهدورة؛ لا يستطيع الحصول عليها إلا أصحاب القلوب الجسورة والعقول الذكية، وعند ذلك يستمتع الفاسد بالحج والعمرة عن طريق الرشوة وسرقة المال العام، بل يبنى أحدهم مسجداً من مال حرام ليعيد وضع نفسه ضمن الصالحين والمحسنين والمتصدقين.
والفساد درجات وطبقات منها الأصغر ومنها الأكبر وبينهما أنواع آخر... والفساد الأكبر يبدأ ممن هم قدوة المجتمع ومثله الأعلى ونجومه الذين يقتدى بهم العوام؛ بكل فئاتهم وأنواعهم وتخصصاتهم، من علماء الدين والوعاظ والكهنة إلى المثقفين والإعلاميين، ومن السياسيين والحزبيين إلى رجال الأعمال والأغنياء ووجهاء المجتمع، ومن الأطباء والقضاة وأساتذة الجامعات إلى المذيعين والصحفيين…الخ. هؤلاء هم من يصنع الفساد الأكبر وهم من يغذيه ويكاثره.
قديما قالوا: إذا انشغل العلماء بجمع المال الحلال؛ تحول العوام إلى الشبهات... وإذا صار العلماء يأكلون الشبهات؛ صار العوام آكلين للحرام ... وإذا صار العالم يأكل الحرام؛ كفر العامى إذا استحل، هنا مصنع الفساد الأكبر، هنا سدنة معبد الفساد والإفساد، هنا ننظر فيمن يدخلون فى صنف العلماء بكل ألوانهم ومذاهبهم فى مصرنا المحروسة…ماذا سنجد؟ … سنجد علماء ووعاظا ودعاة غارقين فى الدنيا وملذاتها، يسابقون المترفين من الأغنياء فى حياتهم وقصورهم وسياراتهم ونسائهم، يبيعون كل مكونات الدين من الوعظ والنصيحة والأدعية وقراءة القرآن بكل السبل والوسائل حتى نغمات التليفون.
تعالوا إلى صنف ثانٍ من الفساد، وهو المتعلق بالتوريث المنتشر بين أساتذة الجامعات والأطباء وداخل القضاء … أقل فساد يمارس هنا هو توريث أبنائهم أعظم المهن التى ما وصلوا إليها إلا بجهدهم وسهرهم ومثابرتهم، ولكن ما أن استقرت فيها مقاعدهم حتى تنكروا لأصلهم، واعتبروا أن أبناءهم هم الورثة الشرعيون لهذه المهن الجليلة العظيمة، ثم تمادوا فى الفساد فهذا يبيع كل شيء من المذكرات إلى الامتحانات، وذاك يسرق الأعضاء البشرية، والثالث يسترخص العدالة بدراهم معدودات ويكون فيها من الزاهدين.
والصنف الثالث من صناع الفساد الأكبر ينتشر بين أهل الإعلام بكل أنواعه، فمنهم من باع الكلمة، التى هى أسمى ما خلق الله عند أتباع كل الأديان، باعوها فى سوق النخاسة؛ فصفقوا وطبلوا لكل من يدفع أو يحمى أو يتستر على ما جنت أيديهم من آثام فى حق الوطن، هؤلاء يقدمون أنفسهم على أنهم قادة الرأي، وصناع الفكر، وحماة الوطنية، والجميع يعلم أن ثمن الكلمة التى تخرج من أفواههم تعادل دخل مواطن غلبان فى شهر….الإنسان العادى يتساءل…ماذا يقدم هذا المذيع أو المذيعة للوطن والشعب والإنسانية حتى يحصل فى شهر واحد على أكثر مما يحصل عليه زميله فى وظيفة أخرى طوال عمره.
الفساد الأكبر فى قمة المجتمع فى النخبة الثقافية والسياسية والمهنية، الفساد الأكبر يصنعه رجال الدين الذين صاروا من رجال الدنيا وزينتها، يصنعه المثقفون والكتاب الذين يبيعون كل شيء من الأغانى الهابطة، والسينما الساقطة، والمسلسلات الفضائحية، المهم أن تدر دخلا يمكنهم من السكن فى المنتجعات السياحية والشاليهات المارينية، ويجعلهم يتفاخرون بما يملكون على من تعفف من زملائهم ، أو فشل فى أن يكون فاسدا.
على الدولة والمجتمع معالجة الفساد الأكبر حتى يمكن مكافحة الفساد الأصغر؛ وهو فساد القميص والبدلة والتليفون ورحلة العمرة، ورشوة المئات أو الآلاف من الجنيهات، هذا هو الفساد الأصغر، أما الفساد الأكبر فهو فساد كل من انتقده وأذاع خبره وعلق عليه وانتفخت أوداجه فى سبه ولعنه، ما لم تتخلص مصر من الفساد الأكبر، سيكون الفساد الأصغر أكثر تكاثرا، وأعظم انتشارا.
نقلا عن الاهرام القاهرية
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع