بقلم - نصر محمد عارف
فى بدايات عام 1988 كانت المرة الأولى التى أدخل فيها الى مشيخة الأزهر، حينها كادت الهيبة والخوف يقتلنى لأننى ذاهب الى كعبة العلوم الإسلامية، الى قدس أقداس التراث؛ الى المرجعية الدينية للمسلمين، وازداد خوفى أننى سوف أقابل العالم الجليل الدكتور رؤوف شلبى وكيل الإمام الأكبر شيخ الأزهر، والدكتور رؤوف شلبى مشهور أنه لا يتسامح مع غير الجادين، سواء من طلاب الأزهر، أو من الدارسين للعلوم الإسلامية من خارج الأزهر، وكان إذا وجد باحثا قدم رسالة ماجستير أو دكتوراه أدنى من المستوى يضربه، وكان هذا بالذات سبب خوفي.
كان الأزهر حينها يجمع ثلاثة من كبار العلماء فضيلة الإمام الأكبر الشيخ جاد الحق على جاد الحق، ووكيله الدكتور رؤوف شلبي، والأمين العام لمجمع البحوث الإسلامية الدكتور عبدالفتاح بركة، وجميعهم يدركون بعمق الخيط الفاصل بين استقلالية الأزهر كمؤسسة دينية وتعليمية، وبين الأزهر كمؤسسة من مؤسسات الدولة المصرية، وواحدة من أهم وسائل القوة الناعمة لها فى الداخل والخارج، وأن الأزهر جزء من الدولة، وليس فى مواجهة الدولة، ولكنه جزء له من الخصوصية والاستقلالية ما يحافظ على نزاهته وشرعيته، واحترام المسلمين والعالم له، ولم يكن فى المشيخة فى ذلك الوقت من غير الأزاهرة أحد لا فى وظيفة بحثية، ولا استشارية ، فلا ترى فى المشيخة الا أهل العمامة المبجلين.
وكان سبب ذهابى لمشيخة الأزهر أن كلية الاقتصاد والعلوم السياسية بجامعة القاهرة قد اختارت الدكتور رؤوف شلبى رحمة الله عليه ليكون مناقشا لرسالتى للماجستير التى كانت تتناول نظريات التنمية السياسية المعاصرة وتقارنها بما قدمته الحضارة الإسلامية من أفكار فى تطوير المجتمعات وتقدمها ورقيها، وكانت هذه هى المرة الأولى فى تاريخ كلية الاقتصاد أن يناقش فيها شيخ أزهرى رسالة جامعية، وكان من عادة الدكتور رؤوف شلبى أن يقرأ الرسالة كاملة قبل أن يعطى موافقته على المناقشة، ولذلك ترددت على مكتبه، وبعد أن قرأ رسالتى شد على يدي، وضمنى الى صدره وقال هذا العمل سيكون فى ميزان حسناتك يوم القيامة.
فى فترة ترددى على مكتب وكيل المشيخة الأزهرية مع زميلى المرحوم فوزى خليل المذيع بإذاعة القرآن الكريم ،والذى كان يعد الدكتوراه فى كلية الاقتصاد كذلك، شهدت موقفا فى مكتب الدكتور رؤوف شلبى رحمة الله عليه، أن جاءه صحفى يجرى حوارا معه عن تنظيم الأسرة، وموقف الشريعة من هذا الموضوع، وكنت جالسا أثناء الحوار منتظرا تعليمات الشيخ، ولكن هذا الحوار شكل نقلة نوعية فى فهمى للدين والشريعة والوطن والوطنية، فقد كان رد الدكتور رؤوف شلبى على الصحفى المحاور قاسيا جدا... قال له: لن أعطيك رأيا ولا فتوى حتى تأتينى بتوضيح حول مصادر تمويل حملة تنظيم الأسرة، أو تحديد النسل، فإن كان تمويل الحملة من الدولة المصرية، وبقرار حكومتها، ولأهداف وضعتها قيادتها، ولمصالح شعبها، ولتفادى مخاطر مستقبلية على هذا الشعب، فهذا عمل جائز شرعا، ومأمور به دينا، ومن حق الحاكم أن يقرر لشعبه ما يحقق مصالحهم.. أما إذا كانت حملة تنظيم الأسرة وتحديد النسل ممولة من مؤسسات دولية، وجهات أجنبية، وحكومات من خارج الحدود أيا كان اسمها أوصفتها، فهذا عمل مرفوض، وقد يكون عدائيا، ويجب رفضه وعدم الانخراط فيه.
تعلمت حينها درسا لا يقل أهمية عن رسالة الماجستير، وهو أن الحكم الشرعي، أو الفتوى ليست عملا ميكانيكيا، وليست مسألة دينية روحانية، أو فقهية قانونية، وإنما هى عمل استراتيجى من طراز خاص، يحتاج الى عقل استراتيجى من طراز خاص، وأن ما قاله الدكتور رؤوف شلبى رحمة الله عليه عن تنظيم النسل ينطبق كذلك على كل الموضوعات خصوصاً موضوعات حقوق الإنسان، والديمقراطية، ومراقبة الانتخابات، والمجتمع المدني، وقضايا المرأة، وختان الإناث....الخ.
كل تلك الحملات الثقافية/السياسية يحدد طبيعتها والموقف منها مصادر تمويلها، والجهات التى تقف خلفها، بحيث يجب ألا يتم النظر اليها جميعا بنفس العين، أو من نفس المنظور؛ على الرغم من أن حقيقة الموضوع الذى تتناوله واحد، وأنها تعالج نفس القضية، وتسعى لمواجهة نفس المشكلة.. ولكنها بالتأكيد لا تسعى لتحقيق نفس الأهداف، لأننا جميعاً ندرك أن موضوع حقوق الإنسان بالذات يثار فى مواجهة دول معينة، وليس فى مواجهة جميع الدول التى تعانى من مشكلات فى هذا المضمار، وحتى فى مواجهة نفس الدولة يثار فى أوقات معينة، ويتم التغاضى عنه فى أوقات أخري، وهكذا باقى القضايا السابق الإشارة إليها من الديمقراطية حتى ختان الإناث.
جهات التمويل تحدد الموقف من القضية، خصوصا تلك القضايا الكبرى التى تمس المجتمع بصورة عامة، وتؤثر على مستقبل الدولة، لأن هناك قضايا مسلمة يتفق عليها جميع المهتمين بالشأن العام، وهى أن السياسة الدولية، والعلاقات بين الدول تحكمها المصالح، والأهداف الاستراتيجية التى قد تتضمن إلحاق الضرر بطرف معين، ولا يوجد مجال للعمل الخيرى أو الإنسانى فى تلك القضايا، فالعالم ليس جمعية خيرية ينشغل فيها الأقوياء بمستقبل وهموم الضعفاء، وإنما هو ساحة صراع ينشغل فيها الجميع بمصالحهم.
نقلا عن الاهرام القاهرية
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع