بقلم - نصر محمد عارف
منذ أكثر من ربع قرن، وفى واحدة من المحاضرات وقف الدكتور أحمد المجذوب، الخبير بالمركز القومى للبحوث الاجتماعية والجنائية، يصرخ منذرا، ومحذرا من بداية تشكل ظواهر اجتماعية فى المجتمع المصري، ظواهر غريبة، ولكنها خطيرة، أطلق عليها الدكتور المجذوب مفهوم الإيدز الاجتماعي، والآن هذه الظواهر التى تمثل الإيدز الاجتماعى اكتمل نموها، وتوحشت، وأصبح من الصعب القضاء عليها فى المدى القصير، وتحتاج إلى استراتيجية اجتماعية شاملة تقوم بها مؤسسات المجتمع، وقواه الحية.
قتل الأبناء والآباء والأمهات، والأخوة والأخوات، والأزواج والزوجات، وزنا المحارم، والتعدى على أعراض الأصدقاء والجيران هو الإيدز الاجتماعي؛ لأنه يعبر عن حالة فقدان المناعة الأخلاقية الطبيعية المتوارثة فى المجتمع، تماما مثل مرض الإيدز الذى يصيب الإنسان حين يفقد المناعة المكتسبة؛ هو الظاهرة الاجتماعية التى حذر منها واحد من أفضل خبراء دراسة السلوكيات الإجرامية فى المجتمع المصري، الدكتور أحمد المجذوب الذى أنذر قومه، من هلاك قادم، ولكنهم لا يسمعون من شدة الصراخ والعويل فى وسائل الإعلام، ومن على منابر المساجد، مجتمع يصرخ بعض الوقت، ويلهث بعضه، وينام الباقي.
المجتمع المصرى مهدد بأن يصبح مصابا بالإيدز الاجتماعي، يخشى عليه من فقدان مناعته، لعدم مواجهة مشكلاته الصغيرة فى وقت ظهورها مواجهة صحية، وصحيحة، فتتفاقم، وتتضاعف مضاعفاتها، وتتحول إلى أمراض مزمنة، يصعب علاجها، أو يستحيل، وتحتاج إلى جراحات عميقة، أو عمليات بتر.
أربعة أسباب يمكن أن تؤدى الى تمكن الإيدز الاجتماعى من الجسد المصري:
أولها: غياب كثير من المؤسسات عن وظائفها منذ بداية سياسات الانفتاح الذى دهس فى طريقه الملايين من الطبقات الفقيرة والمتوسطة، الذين أصبحوا يطحنون بين شقى الرحى، الفقر من جانب، وظاهرة الرياء الاجتماعى من جانب آخر، فقد خلق الانفتاح ظهارة التسلع، اى إضفاء قدسية اجتماعية على السلع الحديثة، فأصبحت السيارة والاثاث والأدوات الكهربائية أهم من كل القيم، ومن العلاقات الاجتماعية.
وثانيها: ضلال الخطاب الدينى عن طريقه، ودخوله فى مرحلة التيه، والتوهان، فالخطاب الدينى الرسمى أدخل الدين فى الديب فريزر، للحفاظ عليه من التلف أو التحلل، وتُركت الساحة للحمقى الذين ركبوا الموجة، وتصدروا للدعوة والفتوى، وقيادة الجماهير الجاهلة، أو المتعلمة تعليما شكليا ناقصا، أو فارغا، تصدروا بمجموعة من المظاهر التى تعد من قبيل النفاق بلغة الفقه، او النصب والاحتيال بلغة القانون، يكفى إطلاق لحية، وتقصير ثوب، وعلامة صلاة مصنوعة، وكنية كأبى فلان، ونسبة الى قرية، أو طائفة، ويصبح ذلك الداعى الجاهل، المحتال أكبر عالم دين، ولأن الدين لا صاحب له، فلا سبيل لاكتشاف هؤلاء النصابين. أما الحركات والجماعات، والتنظيمات الإسلامية التى أعلنت أنها تحرس الفضيلة، فقد انصرفت إلى الاتجار بالرذيلة من أجل مكاسب سياسية، تمارس الكذب والغش، وتنشر الفضائح طالما تنال من الخصوم، أصبحت رسالة هذه الجماعات هى الصراع السياسي؛ تتاجر فيه بالدين للوصول إلى الملك.
وثالثها، فنون وثقافة مثل السينما والدراما يتحكم فيها رأس المال، وتحكمها معايير شباك التذاكر، والعوائد المالية، لذلك صار الكسب المادى هو المحرك للفنون التى تشكل الوعي، وتحدد معايير السلوك، وتغير العادات والتقاليد، ولم يعد الفن وسيلة للتربية والتنشئة الأخلاقية، بل صار وسيلة لنشر الجريمة، والعنف والانحراف الأخلاقي...وكل الدراما التى تجذب أكبر عدد من المشاهدين أصبحت هى الموضوع المحبب للمنتجين، وتحولت هذه الفنون الى وسيلة لإضعاف مناعة المجتمع الأخلاقية، ووسيلة لتمكين الإيدز من المجتمع.
ورابعها، إعلام أصبح يقوم على الإعلان والربح، ومن ثم صار تسويق الجريمة، والفضائح، الوسيلة الأيسر من أجل زيادة نسبة المشاهدة، أو التوزيع، ومن ثم زيادة الإعلانات، لتحقيق المليارات، ولا يهتم أحد بالقيم، فليذهب المجتمع إلى الجحيم.
فى حالة مثل هذه لابد أن تتحرك المؤسسات المسؤولة عن حفظ المجتمع لتقوم بدورها، سواء أكانت مؤسسات رسمية أو أهلية، حكومية أو مجتمع مدني، فلابد أن تتضمن مناهج التعليم مقررا إجباريا عن الأخلاق، وهذا المقرر موجود فى دول كثيرة فى أوروبا وشرق آسيا، وكذلك فى دولة الإمارات، ولابد أن تقوم المؤسسات المعنية بشؤون الدين بدورها، وتركز على وظيفتها الأساسية وهى حفظ أخلاق المجتمع، والارتقاء بها، وتربية الأجيال على القيم النبيلة والسلوكيات الفاضلة، هذه هى الوظيفة الأساسية للدين.
ولابد أن تعود الدولة للاهتمام بالفنون والثقافة وتستثمر فيهما، فلن تستطيع مصر أن تحقق نهضة والإنسان المصرى ليس على المستوى الأخلاقى الذى يضمن استدامة هذه النهضة، لابد أن تعود الدولة للإنتاج السينمائى والفني، ولا يترك هذا المجال الحيوى لرأس المال الساعى للربح بأى ثمن، ولابد من تقديم نموذج جديد للإعلام يستفيد مما هو موجود فى العالم، إعلام يرتقى بعقل الشعب وثقافته وذوقه وقيمه.
نقلا عن الاهرام القاهرية
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع