الإصلاح هو المعادل الموضوعى للفساد، هو الوجه الآخر له، هو قرينه الذى ينبغى أن يكون مكافئا له كما وكيفا وزمانا، فبقدر حجم الفساد وعمقه ينبغى أن تكون عملية الإصلاح.
مصر مشغولة الآن بكيفية الخروج من حالة الفساد الذى تعيشه منذ عقود؛ وقد يكون من المناسب أن يتم الإعلان عن أن 2019 هو عام القضاء على الفساد.
والمقصود بالفساد هنا ليس المعنى القانوني، وإنما المعنى الحضارى العام الذى هو عكس الصلاح والإصلاح، فحالات الفشل المتوالى فساد، وانعدام الكفاءة فساد، والتخلف فساد، وتدنى مستويات الحياة، وضعف الخدمات فساد..الخ.
وحالة مصر منذ ما يزيد على أربعة عقود هى تجليات متعددة للفساد بمعناه الحضاري، وإن كان الأكثر ظهورا فيها هو الفساد الإدارى والمالي، إلا أن الفساد العام هو الأصل والمنبع حتى بالنسبة للفساد القانوني، فبدون ترسخ مفاهيم الفساد فى الثقافة العامة لم يكن ممكنا أن ينتشر الفساد المالى والإداري، وبدون الفساد المالى والإدارى لم يتمدد الفساد الحضارى إلى هذا المستوي، وبهذا العمق.
الفساد فى مصر عميق ومتجذر فى النفوس بصورة يصعب معها وصفه بالفساد، تغيرت خصائصه الجينية حتى صار هو والصلاح توأمين سياميين متطابقين، الفساد فينا جميعا أصبح ثقافة، نمارسه كنوع من تحقيق الذات، من التميز، من إثبات أننا مهمون، وأننا أكثر براعة من الآخرين وأشطر منهم، وأكثر أهمية منهم، ومن طبقة أعلى منهم، الفساد فينا جميعا وبدون استثناء من التقى النقى إلى المجرم الفاسد.
تأمل سلوكياتنا جميعاة من منا لا يشعر بالنصر والفوز وتحقق الذات حينما يحصل على الخدمة متجاوزا طابور المنتظرين، أو مقتحما الطابور بحيلة من منتصفه أو آخره؟ من منا يحب ألا يكون له معرفة أو صديق أو قريب فى كل مصلحة يريد أن يتعامل معها حتى يقضى حاجته من خارج النظام، إذا كان هناك نظام؟ من منا يحب ألا يتهرب من الحق العام سواء أكان ضرائب أو جمارك أو شيئا آخر؟ من منا يحب ألا يحصل على أكثر من حقه فى أى سلعة أو خدمة مدعومة من المال العام؟ من منا لا يتمنى أن يحصل على أرض أو شقة من المال العام وبسعر رمزي؟ بهذا المعنى نحن الكثير فاسدون.
كم هو ممتع حقا أن تخالف القانون فى مصر، أن تسير فى الاتجاه المعاكس فى الطريق، أن تسلك الطريق الأقصر حتى وإن كان ممنوعا السير فيه، أن تمارس الرشوة وتسميها إكرامية، ومن علامات ترسخ قيمة الرشوة فى ثقافتنا وتحولها إلى قانون غير مكتوب أن صار الموظف الذى يرفض الرشوة مخلوقا غريبا إلى الحد أن أصبح خبرا تتسابق الصحف فى نشره.
هل صادف أحد منا يوما موظفا عاما فى دولاب الدولة لا ينتظر من المتعاملين معه أن يقدموا لعظمته كل عبارات الشكر والمديح لأنه أدى وظيفته، الوظيفة فى مصرنا ملك للموظف الذى يشغلها، وكل ما يقوم به الموظف العام هو خدمة شخصية تنازل سيادته وقدمها لذلك المواطن الذى يتسول منه هذه الخدمة؛ ليس لأنها حق له، وإنما لأنها منة وفضل من سعادة الباشا أو البيه الذى يحصل على رزقه من أداء هذه الخدمة إن لم يكن هذا فسادا فما هو الفساد؟
قد يكون من المستحيل تعداد تجليات الفساد فى ثقافتنا ورصد نماذجه وحالاته، لذلك لن نغرق فى رصده لأنه مثل النهار لا يحتاج إلى دليل، يكفى أن ينظر كل منا فى نفسه، ويراجع تاريخ تعاملاته مع المجتمع والناس.
وهذا الفساد العام العميق يستحيل القضاء عليه مرة واحدة، أو مواجهته مواجهة شاملة، وإلا كان من يريد أن يفعل ذلك مصلحا أحمق غايته صحيحة، ووسيلته خاطئة إلى الحد الذى يقضى على الغاية ذاتها.
مواجهة هذا النوع من الفساد تحتاج استراتيجيات معقدة جدا أهم معالمها:
-البدء بإصلاح أضعف مناطق الفساد، أى مواجهة الفساد الضعيف غير المتجذر الجزئي.
- البدء بالفساد البعيد عن المراكز القوية فى البيروقراطية.
-البدء بالفساد الهامشى الذى لا يمس جوهر البنية البيروقراطية الفاسدة.
-تقديم معالجات غير تقليدية لا تقوم على المواجهة المباشرة مع هياكل الفساد.
-اعتماد نماذج الإحلال والاستبدال سواء المؤسسى أو البشري، بأن يتم تأسيس مؤسسات موازية أو إحلال كوادر بشرية بديلة.
-التخلص من الثقافة الفاسدة من خلال التخلص ممن يحملها مثل تبكير سن التقاعد للبيروقراطية.
-اعتماد منهج جديد فى الخدمة المدنية يقوم على التدريب والإنجاز ويلغى فكرة الوظيفة الدائمة.
-الفصل بين ملكية المؤسسات أو تبعيتها وبين إدارتها.
-مراجعة اللوائح والقوانين المنظمة للعمل الإدارى بصورة دورية.
-تفعيل قوانين الكسب غير المشروع لمحاسبة الفساد فى نتائجه إن كان يصعب ضبطه فى منبعه.
هذه مجرد نماذج وهناك غيرها أكثر.
نقلا عن الاهرام القاهرية
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع