بقلم - نصر محمد عارف
فى الثانى والعشرين من رمضان من العام قبل الماضي، الموافق السابع والعشرين من يونيو 2017، نشرت فى هذه الصفحة مقالاً بعنوان «تسليع الدين.. وتسويق الدين» تناولت فيه كيف أننا قد صرنا نعيش فى مجتمعات نُزِعَ من الدين فيها روحانيته، وتحول إلى طقوس جامدة، وشعائره فارغة من مقاصدها، كل ذلك حدث بفعل جماعات وتنظيمات حولت الدين إلى وسيلة لأهداف دنيوية؛ كان منها تمكينهم من فرض رؤيتهم للتدين على العباد، وكان منها أنهم يريدون إكراه الناس على اعتناق نسخة معلبة من الدين؛ هؤلاء الذين يتصورون أنهم فاتحون جدد، جاءوا لإخراج الناس من الجاهلية للإسلام، هم فى حقيقتهم تجار، ودنيويون حتى النخاع، يعبُّون من ملذات الدنيا عبَّاً، فمن منهم لا يسكن فى أفخم البيوت، وجيرانه فى العشش والعشوائيات والقبور وهو يعلم؟ ومن منهم لا يركب أفخم السيارات، وأتباعه معلقون فى وسائل المواصلات العامة؟.
والحقيقة أنه بعد عامين من ذلك تحول الدين والتدين من مجرد سلعة يتم تسويقها إلى اقتصاد كامل يدور حول بيع الدين، والإتجار بالتدين، وتسويق السلع بالآخرة، وتفضيل سلعة على أخرى لأنها تحقق درجة أعلى من الروحانية، فقد تحول الدين من مسألة روحانية ترتقى بالإنسان، وتعلو به فوق الماديات، وتتسامى بعقله وقلبه وروحه الى مستويات راقية تجعله إنساناً أفضل مع باقى البشر، تحول الدين الى مجرد وسيلة لتسويق السلع، وتضخيم الثروات، ورفع نسبة الإعلانات، وزيادة ما يحصل عليه تجار الدين من المدخولات، واتساع مساحة تمتعهم بالملذات، أى أنه تحول الى حالة دنيوية غرائزية تهبط بالإنسان الى مستوى الحيوان فى التعلق بالملذات والشهوات. يقود هذه الظاهرة مجموعة من عدماء الدين، وليس علماء الدين أو الدعاة، ازداد عددهم وتوسعت مملكتهم على الفضائيات؛ لأنهم مصدر للإعلانات من البسطاء الباحثين عن طريق الآخرة عند مجموعة من الدنيويين، العاشقين للدنيا، الغارقين فى ملذاتها، الذين يبيعون الآخرة للبسطاء، والفقراء والعوام لينفردوا هم بالدنيا وحدهم.
وهذه ليست ظاهرة حديثة؛ فقد واجه أبو يوسف يعقوب بن اسحاق الكندى المتوفى 873م، أى منذ 1145 سنة، هذه الظاهرة فى زمانه عندما خرج أجداد عدماء الدين الذين يعيشون بيننا اليوم يكفرون من يشتغل بالفلسفة أو يدرسها، أو يتعلمها ويعلمها، فقال الكندى فيهم: «هم من أهل الغربة عن الحق، وإن تُوِجوا بتيجان الحق، دون استحقاق. فهم يعادون الفلسفة ذباً عن كراسيهم المزورة؛ التى نصبوها من غير استحقاق، بل للترؤس والتجارة بالدين، وهم عدماء الدين، لأن من تجر شيئا باعه، ومن باع شيئا لم يكن له. فمن تجر بالدين لم يكن له دين، ويحق أن يتعرى من الدين» هؤلاء المتاجرون بالدين من عدماء الدين؛ الذين لم يكن لهم سابق علم، ولا درس ولا تفرغ لعلوم الدين قبل إتجارهم به، والآن صاروا هم قادة الدعاة ورءوس المفتين، ينتسبون زوراً إلى السلف الصالح، لأن لهم سلفهم هم الذين كان مثلهم، والذين سماهم الكندى عدماء الدين، وليس علماء الدين
إن أهم عنصر فى اقتصاديات الدين والتدين هو تسليع الدين، أى تحويله إلى سلعة ثم تجارة، ومن ثم تسويق التدين من خلال الدعاية والإعلان بطريقة الدعاة الجدد، الذين تحول الواحد منهم الى مالك للدين وتاجر للتدين، يشعر أنه يستطيع أن يبيع الدين لمن يدفع أكثر، بل إنه يتعامل مع الدين من خلال ممارسات احتكارية، فيكون الدين خادما لتسويق سلعة بعينها من إنتاج شركة بعينها، وبذلك لا يحق للشركات المنافسة أن تستخدم الدين فى تسويق نفس السلعة، وهذا فى حد ذاته، يناقض قوانين منع الاحتكار، ولكنها حقوق الملكية التى ظن الدعاة الجدد من فرط نجوميتهم أنهم قد ملكوا الدين والمتدينين، ومن حقهم أن يفعلوا ما يشاءون، ولا معقب عليهم، ولا أحد يستطيع أن يمنعهم، لأنه من حكم فى ماله ما ظلم، وهم مالكون للدين، ونحن مجرد زبائن عندهم. هذه العملية قادت إلى مزيد من تجفيف التدين عند المسلمين، والبعد به عن جوهر الدين ومقاصده، لذلك لم يؤد التدين المنتشر فى مجتمعاتنا إلى تحقيق مقاصد الدين الأخلاقية والسلوكية، فقد ازداد التدين الشكلى فى مجتمعنا، وكذلك انتشار الحجاب، وكلها مظاهر حسنة لو صاحبتها أخلاق وقيم، ولكن للآسف مع ازدياد التدين الشكلى يزداد البعد عن الأخلاق والقيم، وتنتشر الجرائم والمعاصي، بل وتزداد الكبائر من القتل والزنا، والسفاح وزنا المحارم...إلخ. وهنا لابد من وقفة حازمةةنحن نسير فى طريق سارت فيه قبلنا كنائس الولايات المتحدة الأمريكية، ودعاتها التليفزيونيون، وكانت النتيجة كارثية، هجرا للدين، وبعدا عن التدين وفراغا للكنائس، ومن أراد أن يستزيد فليقرأ عن التجربة الأمريكية التى قلدها الدعاة الجدد.
نقلا عن الاهرام القاهرية
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع