بقلم - نصر محمد عارف
لم يكن للكلمة دور محورى فى تشكيل حياة البشر وتوجيهها والتحكم فيها مثلما أصبح لها فى عالمنا المعاصر، وذلك نتيجة لتداعيات الثورة المذهلة فى وسائل الاتصال والتواصل، ومن ثمّ فقد أصبحت الكلمة مكتوبة أو مسموعة أو مرئية أهمّ أسلحة هذا العصر، فبالكلمة يختلف البشر ويتصارعون ويتقاتلون، وبالكلمة تتحرّك الشعوب والأمم نحو الحروب والصراعات، وبالكلمة أيضاً يتقارب الناس، ويتحابون ويتعاطفون، وبالكلمة تتجه الشعوب والمجتمعات صوب التعاون والتعارف والائتلاف. فالكلمة هى مفتاح القلوب والعقول، وهى الوسيلة الأسرع لتحقيق الأهداف والغايات أياً كانت.
وتأسيساً على محورية الكلمة، وبالنظر إلى واقع العالم المعاصر الذى يتجه بصورة متسارعة إلى مزيد من الصراع والمواجهة والعداء بين المجتمعات والشعوب والثقافات والحضارات، بل بين الأديان والمذاهب والملل. ولعلً مراجعة خريطة صراعات العالم اليوم تبين بما لا يدع مجالاً للشكّ أنّ كمّ ونوعية الصراعات أخذت فى التزايد حدة وعدداً. ومجمل هذه الصراعات، إما أنها اندلعت من أفكار ومدركات سلبية، ناتجة عن اعتقادات خاطئة، وإما أن تلك الأفكار والإدراكات السلبية هى التى أججت الصراعات، وزادتها اشتعالا. ويكفى أن نتابع كم القتل العبثى الذى يحدث فى الشوارع والمطاعم، والمدارس، وكم التفجيرات الجنونية التى تحدث للمدنيين الآمنين فى المدن؛ لنعرف الى أى مدى وصلت خطورة الكلمة عندما تتحول الى قنبلة موقوتة، فى عقل فارغ، ونفس معقدة مريضة، تستخدم البشر الآخرين وسيلة لإثبات موقف، أو ذريعة للكيد لطرف آخر لا يمكن الوصول اليه، أو ترى النجاة من النار ودخول الجنة لا يتم إلا على أشلاء الإنسان طفلاً وشيخا وامرأة. كل هذا يبين لنا إلى أى مدى يمكن أن يسير العالم فى هذا الاتجاه، وإلى أى نهاية تتحرّك الإنسانية.
والحال هكذا فلا بدّ أن تنهض طائفة من العقلاء من جميع الأديان، لتضع الميزان الحقيقى للأديان، وتبين للناس أن الإنسان هو غاية كل الأديان ومقصدها، وأنه ليس هناك فى الكون من هو أغلى وأعظم قيمة من الإنسان، فالإنسان أعظم عند خالقه من جميع المخلوقات، وأغلى قيمة من جميع العبادات، فبكاء طفل ينذر بخطر عليه مبرر شرعى للخروج من الصلاة، وإطعام مسكين أهم من الحج والعمرة، ودم الإنسان عند الله أقدس من جميع المقدسات.
وجوهر رسالة الإسلام يدور حول الإنسان، إذ ليس هناك فى الإسلام من أو ما هو أعظم من الإنسان، فإذا أردنا اختصار أهم القيم التى جاء بها الإسلام سنجد أنها تنحصر فى السلام والعدل والحريّة والرخاء. تلك القيم عبر عنها الربعى بن عامر عندما دخل بلاط كسرى بعد هزيمة الفرس، وحين سأله كسرى عن سرّ خروج هؤلاء البدو من جزيرة العرب، وقد كانوا تابعين للفرس، يتأمرون بأمرهم، وعن سر قدومهم إلى بلاد فارس، فقال الربعى بن عامر مخاطباً ملك الفرس فى بلاط قصره: «جئنا لنخرج العباد من عبادة العباد إلى عبادة ربّ العباد (أى تحرير الإنسان) ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام (أى تحقيق العدالة فى الكون) ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة» (أى تحقيق الرخاء والرفاهية). هذه هى الرسالة التى جاء بها الإسلام، وينبغى على البشر الذين يعتنقونها أن يتصدّوا لمهمة إعادة الاعتبار للإنسان، وليس قتل الإنسان بصورة عبثية فى شوارع مدن أور،با، وأسواق بغداد، وبنغازى وسوريا، وعليهم أيضا كبح جماح الأفكار القاتلة التى تجرف البشرية إلى تدمير يفوق فى قوته التدمير النووي. لأنه تدمير عبثي، من الممكن أن يقوم به أى مختل عقلياً فى أى مكان.
لقد أجمع الفقه الإسلامى على أن كل ما ورد فى القرآن والسنة عن حقوق الله سبحانه المقصود به حقوق الإنسان، فكل حق لله سبحانه يجب أن يصل للإنسان، وكل فرض فرضه الله سبحانه يذهب للإنسان، الصلاة المقصود بها تهذيب الإنسان ليكون صالحا فى التعامل مع أخيه الإنسان، والصوم ليشعر الإنسان بأخيه الإنسان، والزكاة ليأخذ الإنسان حقه من أخيه الإنسان.... إلخ. فكل الدين، غاية الدين ومقصد الدين هو سعادة الإنسان، ومن خلال إسعاد الإنسان فى الدنيا، يسعد الإنسان فى الآخرة.
نحتاج فى هذا الزمن الذى طغت عليه الماديات، وابتلعته السياسات، وتحكمت فيه السلطة والثروة، والذوات المتضخمة التى لا تشبع، وتراجعت فيه قيمة الإنسان، وأصبحت قيمته تتحد طبقاً لموقعه ومكانته، وسلطته وثروته، وتضاءلت أمام ذلك إنسانيته؛ نحتاج فى هذا الزمن أن نعيد الاعتبار للإنسان فى خطاب دينى يعلى قيمة الإنسان بغض النظر عن عقيدته ولونه ولغته وعرقه، فهو إنسان قبل ذلك وبعد ذلك، ونحتاج أن ننتج ثقافة تعلى قيمة الإنسان، بعد أصبحت الفنون عندنا تهدف بصورة مستمرة الى إنهاء وجود الإنسان أمام تعظيم قيمة القوة والثروة والسلطة والعنف. على الرغم من أن جوهر مفهوم الثقافة والفنون والآداب هو الإنسان كإنسان مجرد من كل أعراض الثروة والقوة والسلطة.
المصدر : جريدة الأهرام القاهرية
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع