منذ بداية النظام البرلمانى والدستورى الحديث فى مصر عام 1923، وهناك قاعدة صارمة تحكم العملية السياسية، واستقرار نظام الحكم، هذه القاعدة تقول: إنه لا يمكن أن يستقر النظام السياسى المصرى بدون وجود حزب كبير تعتمد عليه الدولة فى تحريك الجماهير، وضبط إيقاع المجتمع، وبالعكس فان عدم وجود حزب قوى يجعل النظام قابلا لكل أنواع الاهتزازات والاضطرابات، وان وجود عدد كبير من الأحزاب يربك النظام، ويجعل الحكومات مضطربة وفاشلة وغير مستقرة.
وباختصار شديد فإن تعدد الأحزاب الصغيرة جعل الحياة السياسية فى مصر غير مستقرة طوال فترة الثلاثينيات والأربعينيات من القرن الماضي، وكذلك فإن عدم وجود حزب قوى جعل النظام مضطرباً، وغير مستقر فى بداية حكم عبد الناصر ورفاقه من 1952 الى 1956، ولم يستقر الأمر الا بعد أن تم تأسيس الاتحاد القومي، ثم الاتحاد الاشتراكى العربي، ونفس الأمر حدث مع السادات منذ بداية حكمه الى إنشاء الحزب الوطنى الديمقراطى عام 1978.
ومصر الآن تمر بالحالتين السابقتين معاً، حيث هناك عدد كبير جداً من الأحزاب، ولا يوجد بينها حزب كبير نسبيا؛ يمثل ظهيرا اجتماعيا للنظام، وهذا يشكل خطراً شديدا على مستقبل النظام، ويعرضه لمخاطر غير منظورة. واليكم الحقائق الآتية:
فى مصر الآن 104 أحزاب سياسية مسجلة رسميا فى نظام الدولة، ومعتمدة من لجنة الأحزاب، هذه الأحزاب تمثل جميع عصور مصر؛ ففيها من أحزاب ما قبل 1952، وفيها من أحزاب عصر السادات، وفيها من الأحزاب الإسلامية بجميع تياراتها؛ من الإخوان الى الجماعة الإسلامية الى السلفية، حتى تنظيم الجهاد هناك أحزاب قريبة من فكره.
هذه الأحزاب تمثل حقل ألغام كبيرا لأنها جميعاً قابلة للاختراق من قبل الجماعات الإسلامية، ورجال الأعمال، والجمعيات المرتبطة بالمنظمات الدولية والحكومات الغربية، وكل من يملك المال ويستطيع تقديم التمويل.
إن أكثر من 95% من هذه الأحزاب ليس لها وجود فى الواقع، فقط اسم وأوراق رسمية، ومقر صغير وحيد فى العاصمة، ولا يوجد لها تمثيل أو حضور خارج العاصمة.
هناك فقط ثلاثة أحزاب لها تمثيل فى مختلف أنحاء مصر هي: الوفد، ومستقبل وطن، والمصريون الأحرار.
أثبتت انتخابات البرلمان الأخيرة حقيقة حجم هذه الأحزاب، فمن بين 104 أحزاب مسجلة رسميا فى مصر لم يدخل الانتخابات الا 49 حزبا فقط، ومن هذه الـ 49 حزبا التى دخلت الانتخابات لم يحصل على مقعد واحد فى البرلمان إلا 18 حزبا فقط، وهذا يقول لنا إن هناك 86 حزبا لا قيمة لها، ولا وجود لها فى الواقع، ولكنها تمثل ألغاما قابلة للانفجار إذا ما وجدت من يمولها ويوظفها.
هذا الوضع لا يمكن أن يصلح معه الترقيع، أو الترميم كما يحدث الآن؛ حيث هناك دعوة للقيام بعمليات اندماج بين الأحزاب، وهذه فى حد ذاتها سوف تحافظ على استمرارية هذا الكائن المشوه، وسوف تحافظ على وجود الأحزاب التى شاركت فى اعتصام رابعة العدوية والنهضة، وتم التعامل مع الأفراد الذين شاركوا فيها على أنهم إرهابيون، ولم يتم التعامل مع أحزابهم بنفس الصفة.
ولذلك نقترح الآتى لتطهير الحياة السياسية المصرية من حقل الألغام هذا، وضمان استقرار واستمرارية النظام السياسى المصرى بدون اضطرابات:
إعادة تشكيل لجنة الأحزاب التى تتكون حاليا من مجموعة من أعضاء السلطة القضائية بحيث يكون تشكيلها مشتملاً علي: أحد قضاة المحكمة الدستورية العليا، وأحد نواب رئيس مجلس الدولة، وثلاثة من أساتذة القانون الدستوري، وثلاثة من المفكرين المحايدين الذين لا ينتمون لأى حزب، ونقيب المحامين، ونقيب الصحفيين، وأحد رؤساء البرلمان السابقين.
إعداد قانون أحزاب جديد يمنع ظهور أحزاب ذات صبغة دينية أو طائفية أو إقليمية أو عرقية أو لغوية بأى شكل من الأشكال، ويعتبر الحزب معدوم الوجود إذا فقد أيا من هذه المعايير.
إلغاء جميع الأحزاب التى لم تحصل على مقعد فى مجلس الشعب، وهى 86 حزبا، والـ 18 الباقية، يتم إخضاعها لمعايير القانون الجديد؛ فيتم إلغاء وجود أى حزب يخالف معاييره.
يشترط على الأحزاب الباقية أن يكون لها تمثيل فى جميع محافظات مصر، ومن لا يحقق ذلك يتم الغاء وجوده.
يطلب من الأحزاب التى تؤسس بعد ذلك أن تكون واضحة فى برامجها، وان تكون متمايزة بصورة حقيقية فى البرامج السياسية والتوجهات، وليس تكراراً لنفس البرامج مع اختلاف الأشخاص.
عدم تقديم أى مزايا أو دعم أو تسهيلات للأحزاب من قبل الدولة، بحيث لا يتحول العمل الحزبى الى وسيلة للتربح والفساد السياسي.
ستفرز الحياة السياسية بعد ذلك حزبين او ثلاثة بمثل التيارات السياسية الكبرى فى مصر، ويتم بينها تداول الأغلبية والأقلية.
من خلال نظام حزبى حقيقى تبدأ حياة ديمقراطية تقوم على تثقيف الشعب، ورفع الوعى الديمقراطى عند أفراده، والارتقاء بالعمل السياسى سواء على المستوى الوطنى أو على المستويات المحلية، وتعود مصر الى سالف مجدها بعد مرور قرن من الزمان على أول عملية ديمقراطية حقيقية حدثت بعد ثورة 1919.
نقلا عن الاهرام القاهرية
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع