بقلم - نصر محمد عارف
من مشهد اعتصام رابعة العدوية فى صيف 2013 الى مشهد غوطة دمشق الشرقية فى فبراير ومارس 2018؛ هناك حقيقة واحدة لم يتم الكشف عنها، وتوارت خلف ركام الضجيج الاعلامي، وتدفقات الاخبار والمعلومات، وحجبتها أصوات المتحدثين باسم الثورة من مختلف العواصم الداعمة لهم، هذه الحقيقة المفزعة تقول لنا إن جوهر المشهدين هو التضحية بأرواح الأبرياء - سواء المؤدلجين سياسيا، أو الضعفاء الذين لا يستطيعون هجرة للمكان- من أجل تحسين شروط التفاوض السياسى للقيادات التى تعيش إما فى فنادق الخمسة نجوم، فى عواصم الرخاء، أو الآمنة فى بيوتها، والمؤمنة لأولادها، حقيقة مفزعة.
الحقيقة فى المشهدين أن من أدارهما، وقاد المواجهة فيهما لم يكن يهدف لتحقيق النصر، أو هزيمة الخصم، وذلك لأن موازين القوى التى يستطيع إدراكها طفل تقول عكس ذلك، بحيث انه يستحيل عقلاً أن تستطيع مجموعة مقاتلين فى غوطة دمشق الشرقية مثلا إلحاق الهزيمة بروسيا وإيران والميليشيات الطائفية، والجيش السورى فى منطقة هى خاصرة العاصمة السورية دمشق، كذلك لم يكن يخطر ببال عاقل أو مجنون أن اعتصام بضعة آلاف فى ميدان رابعة العدوية من الممكن أن يهزم الدولة المصرية بشرطتها وجيشها، ويعيد عقارب الساعة إلى الوراء … وإذا لم يكن الهدف تحقيق النصر أو هزيمة العدو وإلحاق اعظم ضرر به فماذا من الممكن أن يكون؟
فى كلا المشهدين كانت هزيمة الذات، وإلحاق أعظم الضرر بها من خلال استفزاز العدو هى الهدف، كان قتل الاتباع أهم من قتل الاعداء، كان موت الأطفال والنساء والشيوخ من الأتباع أعظم فائدة من قتل جنود العدو… فى كلا المشهدين كانت التضحية بالأبرياء، بالأطفال والشيوخ والنساء غاية فى حد ذاتها، يتم الاحتفاء بها بطريقة إعلامية بارعة من خلال التصوير الدقيق لجثث الأطفال والنساء والشيوخ، وبثها على مدار الساعة من خلال الفضائيات الداعمة لهم، وكأن الموت فى هذه المناطق من نصيب الاطفال فقط، وكأن الذين يموتون من الرجال لا قيمة لهم… الحقيقة أنه لا قيمة استراتيجية عند من أداروا المشهدين الا للموتى من الأطفال والنساء، وكلما كانت طريقة الموت افظع؛ كانت أكثر فائدة للتوظيف السياسي.
فى كلا المشهدين: رابعة والغوطة كان الهدف واحداً؛ هو توظيف المآسى التى يتعرض لها المدنيون خصوصاً الأطفال والنساء لاستدرار عطف المجتمعات الغربية، التى لديها حساسية عالية تجاه قتل الأطفال والنساء، وذلك لكى تتحرك هذه المجتمعات الأوروبية والأمريكية للضغط على حكوماتها لعلها تتدخل بالقوة المسلحة، وتحقق لهذه الجماعات ما فشلت فى تحقيقه بقوتها الذاتية، والقدوة هنا هى الحالة الليبية، حيث كان تدخل حلف الناتو حاسماً فى تحقيق أهداف انتفاضة 17 فبراير، وإسقاط القذافي، ثم تدمير الجيش الليبي، وبالتالى تدمير ليبيا كاملة، وإدخال شعبها فى حالة حرب أهلية لم تنته بعد سبع سنين عجاف.
استدعاء التدخل الدولى فى مصر وسوريا كان الهدف الحقيقى لمشهدى رابعة والغوطة، الأحرار الخونة الذين قادوا المشهدين قامت استراتيجيتهم العبقرية على أن التخلص من الخصم الداخلى يتحقق من خلال الاستعانة بالعدو الخارجي، وأن تحقيق تحرير الإنسان يتم من خلال استعمار الأوطان، وأن مفهوم الوطن لا قيمة له أمام تحقيق أهداف الحزب أو الجماعة، أو الشخص الذى يقود، وهو مستمع بمباهج اسطنبول… تلك النظرية البائسة لقيادات مشهدى رابعة والغوطة كانت تتمحور حول استدعاء التدخل الدولى من خلال وسيلة وحيدة أيضا وهى محاولة لعب دور الضحية، والتضحية بأكبر عدد من القتلى من المدنيين الأبرياء خصوصا الاطفال والنساء، وتسويق صور الجثث لتحقيق أقصى درجات الابتزاز العاطفى للمجتمعات الغربية، لذلك كانت فكرة استفزاز الخصم إجراء اعتياديا لاستدعاء المواجهات التى توقع الضحايا، سواء من خلال الهجمات التى كانت تقوم بها كتائب الإخوان فترة اعتصام رابعة على تمركزات الجيش والشرطة فى مناطق بعيدة عن ميدان رابعة، وكذلك كانت الهجمات الصاروخية والمدفعية المتكررة التى توجهها الفصائل المسلحة فى الغوطة على المدنيين فى دمشق، وعلى الرغم من سقوط مدنيين من النساء والأطفال فى أسواق دمشق بسبب هذه الضربات الموجهة خصيصا لقتل مدنيين، لكونها لم توجه الى مقار النظام السورى أو مواقعه العسكرية، وإنما وجهت الى أسواق وأحياء شعبية، ولكن هؤلاء المدنيين فى أسواق دمشق لم يتم توظيفهم، لأن النظام هناك لا يريد استدعاء التدخل الدولى فعنده ما يكفيه.
حقيقة مؤلمة للغاية أن تصل مجتمعاتنا الى هذه المرحلة من التدهور الأخلاقى الذى يجعل روح الإنسان ودمه مجرد وسيلة فى يد أحزاب وجماعات سياسية تحمل شعار الإسلام، وتتسمى باسمه وتنسب لنفسها صفات رب العالمين، خصوصاً ذلك الذى يسمى نفسه فيلق الرحمن، اختار أعظم أسماء الله سبحانه وهى الرحمة ليغطى بها على أشد وأسوأ ممارسات معدومة الرحمة لتحقيق أهداف سياسية، وفى النهاية تفاوض جيش الرحمن على تأمين حياة مقاتليه وليس على مصير سوريا... فى الحقيقة نحن أمة تحتاج الى إعادة تأهيل كاملة.