بقلم - نصر محمد عارف
القوة الناعمة مفهوم حديث الاستخدام؛ وضعه الاستاذ في جامعة هارفارد جوزيف ناي في كتاب يحمل نفس العنوان؛ يقول في مقدمته مجيبا على سؤال: ماهي القوة الناعمة؟ «إنها القدرة على الحصول على ما تريد عن طريق الجاذبية بدلاً من الارغام، او دفع الأموال. وهي تنشأ من جاذبية ثقافة بلد ما، ومثله السياسية وسياساته. فعندما تبدو سياستنا مشروعة في عيون الآخرين تتسع قوتنا الناعمة». القوة الناعمة هي الجاذبية الثقافية، والجاذبية الثقافية تصنعها عوامل كثيرة أهمها مؤسسات التعليم خصوصاً الجامعات، والآداب والفنون، والصناعات الثقافية مثل الازياء، والحرف الإبداعية…. الخ. القوة الناعمة يصنعها الانسان والمجتمع وتستفيد منها الدولة، وتستخدمها وتوظفها في تحقيق مصالح المجتمع والإنسان. وهنا يثور السؤال المحوري: هل تملك مصر في 2018 قوة ناعمة؟. وبدون خداع للنفس يمكن القول إن مصر تملك آثار القوة الناعمة، ولكنها منذ أكثر من ربع قرن بدأت قوتها الناعمة في التآكل، وتخلت الدولة والمجتمع والإنسان في مصر عن التفكير في القوة الناعمة، لان التفكير ذاته صار ترفاً في عصر الانشغال بالثراء بدون عناء، واللهاث وراء لقمة العيش الهنية منذ لحظة الانفتاح الاستهلاكي العبثي الذي دخل فيه بدون مقدمات شعب عاش ربع قرن على القناعة والكفاف، وانشغل طوال ربع قرن بأحلام واقعية أو خيالية، وشعارات نبيلة أو زائفة. بدأ غروب القوة الناعمة عندما استطاع عنتر الزبال بجاذبيته المالية أن يتزوج خطيبة أستاذ الفلسفة في جامعة القاهرة وحبيبته؛ التي كان يطرب آذانها بمقولات أفلاطون وأرسطو، وإذا بالزبال ينسيها سقراط وتلاميذه أفلاطون وأرسطو ببعض الهدايا المستوردة، لقد دق ناقوس الخطر فيلم انتبهوا أيها السادة 1980، ولكن للأسف لم ينتبه أحد، فالشعب المصري منقسم ما بين عنتر الزبال وأستاذ الفلسفة، حينها بدأت مصر تفقد قوتها الناعمة، وتتخلى عنها طواعية، بل ارتفعت اصوات ترى أن هذه القوة الناعمة عبء اقتصادي لا نريده، وحينها سحبت وزارة الخارجية تحت قيادة الدكتور بطرس غالي 173 بعثة أزهرية من إفريقيا وبعض الدول الأخرى بحجة تقليص النفقات، وبدأ التعامل مع الطلاب الوافدين للجامعات المصرية، سواء من الدول العربية أو الدول الافريقية على اعتبار أنهم مصدر دخل بالعملة الصعبة، وتمت المبالغة في تقدير المصروفات الدراسية، ووضع العراقيل أمامهم، في ذلك التوقيت ودعنا قوتنا الناعمة.
القوة الناعمة المصرية في الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي حققها مفكرون وأدباء وفنانون، ومؤسسات صحفية وثقافية وتعليمية ورثتها مصر من العصور الملكية، وعندما بدأ الإنتاج الجديد لعصر الثورة، كان الثمر دون المستوى، فلا الفن أنتج أم كلثوم أو عبد الوهاب، ولا الشعر أنتج شوقي ولا رامي ولا بيرم، ولا السينما كان فيها يوسف وهبي ولا إسماعيل ياسين، ولم يكن هناك العقاد ولا طه حسين ولا نجيب محفوظ، ولم يعد في مصر الشيخ عبدالحليم محمود ولا شلتوت أو أبو زهرة. ولم تستطع مصر أن تخرج للعالم محمود خليل الحصري جديدا ولا أسرة المنشاوي ولا عبدالصمد…. الخ، تلك هي القوة الناعمة لمصر حين كان لها قوة ناعمة. لعقد أو عقدين من الزمان استطاع الأموات أن يكونوا قوة ناعمة لمصر، فظل العالم يستمتع بصوت المنشاوي، ويطرب لأم كلثوم ويقرأ لنجيب محفوظ، ولكن التاريخ لا يقف لأحد، والعالم متحرك، والدول التي كانت تستهلك الثقافة المصرية، وتعيش عليها، وتمثل لها جاذبية سحرية، بدأت تنتج ثقافة لنفسها، وتنشئ جامعات استطاعت أن تتفوق على الجامعات المصرية، وتخرج مقرئين للقرآن، ومغنين وفنانين وكتاب وصحفيين، وبدأت تنشئ صحفا ومجلات ومحطات تليفزيون…سريعا ما تجاوزت حضور الأموات في مصر التي لم يعد ينشغل الاحياء فيها بالقوة الناعمة أو الجاذبية الثقافية. في ظل هذه المعادلة بدأت مصر تبيع تراثها من القوة الناعمة، فتم بيع التراث السينمائي والموسيقي، وبيعت المخطوطات، وهاجر المثقفون والأساتذة إما وراء لقمة العيش أو بحثا عن فرصة للإبداع، وصارت مصر تتمسح بهذه النماذج المهاجرة، فيحصل المرحوم أحمد زويل على نوبل فتكتشف مصر أنه يحمل جنسيتها، فتحتفي به، وكأنها هي التي صنعت نجاحه، دون أن تدرك أن مثله عشرات الآلاف متناثرين في جامعات العالم، إنه حقيقة واقعية لدى طرف آخر خارج حدود مصر، هو الذي يحدد هل لمصر قوة ناعمة أم لا؟ وذلك من خلال حصول مصر على ما تريد منه طواعية، وبدون إرغام، أو دفع أموال.
والحال هكذا، يجب أن نتوقف عن التوهم أن لدينا قوة ناعمة، لأن الحقيقة أن لمصر أثار قوة ناعمة كانت موجودة في الماضي، أما الآن للأسف فلا يوجد ذلك بنفس القدر الذي يحقق التأثير والنتيجة، لذلك لابد من العمل على إطلاق مشروع وطني للقوة الناعمة، يدرك أدواتها المعاصرة، ووسائلها، ويعمل بصورة حاسمة وسريعة لإعادة إحياء ما يمكن إحياؤه منها، أو إيجاد ما يجب أن يوجد، وأول خطوة هي التخلص من القوة الهادمة في الإعلام والفنون.
نقلا عن الاهرام القاهرية