بقلم - نصر محمد عارف
منذ أرسطو في القرن الرابع قبل الميلاد ونظم الحكم جميعها تتحدد أشكالها طبقا للإجابة على هذه الاسئلة الثلاثة، وهي: من يحكم؟ كيف يحكم؟ ولمصلحة من يكون الحكم؟، إجابة هذه الاسئلة تشتمل على أشكال كل نظم الحكم في الدنيا منذ ظهور المجتمعات المنظمة وحتي اليوم، والإجابة على كل سؤال على حدة تعطي بعداً معيناً لنظام الحكم، بحيث تقدم الإجابة عليها جميعا النموذج النهائي للسلطة والحكم في دولة معينة، ولكن هذه الاسئلة ليست متساوية في أهميتها، وذلك لأن الزمان والمكان يعطيان أوزاناً نسبية مختلفة لكل سؤال، ففي دولة معينة قد يكون السؤال الثاني هو الأهم في مرحلة معينة، وقد يكون الأول أو الثالث أكثر أهمية في مرحلة أخرى. لقد انشغل العقل العربي عامة والمصري خاصة منذ يناير 2011 بمن يحكم وليس بكيف يحكم ولا بنتائج حكمه، وذلك تحت تأثير مفهوم الديمقراطية الذي تم تصديره للشباب العربي بدون فهم عميق، أو فكر مستنير، فصارت المجتمعات العربية تصيح ليل نار ضد فلان، ومع فلان، دون أن تدري كيف يحكم هذا أو ذاك، ودون أن تعي أن الأهم هو نتائج حكمه، ولمن تكون.
إن الديمقراطية بصفتها قيمة إجرائية تركز على الإجراءات التي يصل بها الحاكم أو المسؤول إلى موقع المسئولية، ولا تستطيع هذه الديمقراطية أن تحدد للشعب طريقة حكمه، أو أن تتحكم فيه بعد الوصول إلى الحكم، ونموذج الرئيس الأمريكي ترامب خير مثال على ذلك، فبعد أن ورطت الديمقراطية الشعب الأمريكي برئيس غير مطابق للمواصفات، يمكن أن يردي شعبه الى المهالك النووية، بعد اكتشاف أن العملية الديمقراطية لم تكن قادرة على اكتشاف طريقة الحكم، بدأ المتضررون منه يبحثون عن وسائل غير سياسية للتخلص منه، أو لتحجيمه، وذلك من خلال نشر الفضائح، والسب العلني، والاتهام الشخصي، ومختلف أساليب الردح.
سؤال من يحكم يتناول شكل الحكومة وكيفية وصولها للحكم، فإما أن تكون فردية ملكية وراثية، وإما أن تكون جماعية أرستقراطية، أو تجارية «أوليجاركية» وإما أن تكون جمهورية سواء حزبية أو فردية، والإجابة على هذا السؤال تقدم توصيفا للشكل؛ لأنها لا تستطيع أن تجيب على السؤالين الآخرين: كيف يحكم؟ ولمصلحة من حكمه؟ إذن السؤال الأول معياري يقدم وصفاً للمدح أو الذم، لأنه ليس كل حكم فردي وراثيا أو أرستقراطيا سيئا وليس كل حكم جمهوري جيدا، فكم من الحكومات الوراثية التي نهضت بدولها، وكم من الحكومات الجمهورية قادت شعوبها الى المهالك، ومجتمعاتها إلى الخراب، ويكفي أن نقارن بين حال العراق وليبيا في العهدين الملكي والجمهوري. أما السؤال الثاني الذي يتناول كيفية الحكم فيركز على طريقة صناعة القرار ورسم السياسات، هل هي استبدادية أو ديمقراطية، وهذا السؤال متوسط الأهمية، لأن الطريقة لا تحدد النتيجة، فكم من قرارات تم اتخاذها بطريقة ديمقراطية وقادت إلى حروب ودمار وفشل سياسي واقتصادي، نموذج الحكم النازي مثال على ذلك، وكم من قرارات تم اتخاذها بصورة فردية يمكن أن توصف بالاستبداد أو الديكتاتورية، نقلت مجتمعاتها خطوات هائلة في مضمار التقدم والرقي، ولعل نموذج النمور الآسيوية خير مثال على ذلك، فقد حدثت التنمية في دول جنوب شرق آسيا بطريقة لا يمكن أن توصف بالديمقراطية.
السؤال الثالث هو الأهم، وهو جوهر العملية السياسية برمتها، وغايتها ومقصدها الأعلى، لأنه يركز على مخرجات العملية السياسية، على نتيجة الحكم ولمصلحة من تكون القرارات السياسية والاقتصادية، ولخدمة من تكون موارد الدولة ومشروعاتها، وأين ستوظف ثروات المجتمع، ومن سيخدم هذا الحاكم الديمقراطي أو ذاك.
الشعوب يهمها في الأساس مخرجات العملية السياسية، ولا يعنيها كثيراً من يحكم، ولا كيف يحكم، أما المثقفون والنخب المترفة، وذوو الياقات البيضاء، والمتنافسون على السلطة، والطامعون فيها فيشغلهم السؤالان الأول والثاني: من يحكم؟ وكيف يحكم؟، لأنهم قد يكونون في استغناء عن مخرجات العملية السياسية ونتائج الحكم، وثمرات الدولة، لأن كلا منهم رئيس جمهورية نفسه بحكم الثروة أو السطوة أو العلاقات، مصالح الواحد منهم مؤمنة تأميناً كاملا بغض النظر عمن يحكم، أو كيف يحكم.
ما تحتاجه مصر الآن هو ما يحتاجه الشعب المطحون بالظلم والقهر والفساد لما يقارب خمسة عقود من الزمان الأغبر، الذي حثا التراب على وجوهنا وشوارعنا ومدننا، وكل حياتنا، نريد أن نعرف إجابة السؤال الثالث فقط، ولا يهمنا كشعب من يحكم، ولا كيف يحكم، لأنه لا حيلة لنا في ذلك، نريد أن نعرف لمصلحة من يكون الحكم، ومن أجل من سيتم تسخير موارد الدولة ومؤسساتها، نريد أن نضمن أن مصر يتم بناؤها، وتجديدها بصورة صحيحة تحقق أحلام شعبها، تخرجه من العشوائيات والفقر والجريمة، والمرض والجهل الى حياة تتمتع بها كل شعوب العالم، ونحن في ذيله، نريد من يعيد نظامنا التعليمي ومؤسساته إلى الحالة التي تضمن مستقبل أولادنا وأحفادنا تحت الشمس، بحيث يكونون كراما حيثما حلوا في العالم، نريد منظومة صحية تحترم كرامة الإنسان، نريد وسائل مواصلات وطرقا توصلنا إلى بيوتنا وليس إلى قبورنا، نريد دولة تحترم الفقير ومن ليس له واسطة أو معرفة، وليس «بيه» أو باشا، ولا يجبر على الرشوة، نريد أن نكون بشراً…من يستطيع أن يفعل ذلك هو من نريده ان يحكم مصر.
نقلا عن الاهرام القاهريه