بقلم-نصر محمد عارف
مع انتشار وسائل التواصل الاجتماعي، ودخول كل من يستطيع القراءة والكتابة فى عالمها الافتراضي، ومع تمدد هذا العالم الافتراضى على حساب العالم الحقيقي، مع حدوث كل ذلك صارت اللغة هى الحقيقة الوحيدة الموجودة فى العالم الافتراضي، والعملة الوحيدة المتداولة، والسلاح الوحيد لخوض المعارك السياسية.
قديما كانت البلاغة اللغوية التى تتدفق من أفواه الخطباء تسحر المستمعين، وتجذبهم طالما كانت تعتمد على حقائق واقعية وتعبر عنها، فمنذ اليونانيين القدماء حتى فترة الحكم الليبرالى فى مصر قبل ثورة 1952، والخطابة السياسية هى وسيلة حشد الجماهير واقناعها باختيار مرشح معين أو حزب معين، ولكن كل ذلك كان يأتى فى سياق حُسن تقديم حقائق الواقع فى حلة لغوية جاذبة وجذابة، والقدرة على تحريك العواطف لترى الحقائق باللون الجذاب لها، ولكن لم تكن فى حال من الأحوال لغة جوفاء لا تعبر عن حقائق واقعية، وحينما حدث ذلك عند الإغريق القدماء فى القرن الخامس قبل الميلاد سُمى من يقومون بالتلاعب باللغة الخالية من المحتوى؛ والتى لا تعبر عن حقيقة بالسفسطائيين، نسبة الى عملية السفسطة التى تقوم على الإقناع ليس اعتمادا على البرهان العلمى أو المنطقي، ولا على الإدراك الحسى والظن، وانما على استعمال قوة الخطابة والبيان والبلاغة، والجدل الكلامي. بهذا المعنى أصبحت السفسطائية عنواناً على المغالطة والجدل العقيم واللعب بالألفاظ وإخفاء الحقيقة.
ومع النجاح الذى حققته وسائل التواصل عبر العالم الافتراضى فى حشد الشباب فى الربيع العربي، رجع العالم العربى الى حالة من السفسطة، ولكنها خالية من أدواتها الحوارية، وبراعتها اللغوية، وقدرتها على صياغة الحجج الزائفة. الحالة التى يعيشها العالم العربى عامة، ومصر خاصة هى حالة خاصة من الانغماس بصورة كاملة فى عالم الألفاظ، والهجرة من عالم الواقع الى عالم اللغة، حيث لا توجد حقائق وإنما ألفاظ جوفاء لا تعبر عن واقع، وقد ازداد هذا الأمر بصورة شرسة بعد سقوط نظام الإخوان فى مصر، وتحول نشطاء السياسة الى المعارضة عبر الفضاء الافتراضي، ومن ثم لم يكن لديهم الا سلاح اللغة، وليست اللغة المعتادة أو المتوقعة ممن يمارس العمل السياسي، وانما لغة جوهرها مملوء بالكذب، وظاهرها مغلف بالبذاءة.
توسع المنشغلون بالعمل السياسى فى مصر فى توظيف اللغة فى المعارضة السياسية، دون تحقق من حقيقة هذا السلاح، وهل هو سلاح حقيقى أم وهم؟ ودون تأكد من مضاءة هذا السلاح، ونفاذيته وتأثيره، فقد صارت المعارضة عبارة عن ركام من الكلمات المتراصة؛ التى لا تعبر عن حقيقة واقعية من ناحية، ولا تؤثر فى الخصم السياسى من ناحية أخرى، لذلك انتقل المجتمع الى حوار الطرشان، كل طرف يسب ويشتم ويتهجم على الطرف الآخر الذى لا يسمعه، ولن يسمعه.
تمدد سلاح اللغة فى الاغراق فى العموميات، والكلمات الجذابة الجوفاء التى لا تعبر عن حقائق الواقع، أو المبادئ العامة التى لم يعد ينشغل الناس بها لعدم تحققها لعقود أو قرون مثل الحرية والعدالة.الخ، أو الكذب من خلال وصف حقائق الواقع بألفاظ تثير السخرية لمنع الناس من رؤيتها على حقيقتها، ولعل مصطلح «الفنكوش» الذى ورد فى أحد الأفلام المصرية للتعبير عن الكذب والنصب؛ صار هو عنوان المعارضين للنظام المصرى لنزع الشرعية عن أى إنجاز يقوم به. ولو أن من يعارضون النظام لم يبالغوا فى توظيف سلاح اللغة؛ كان من الممكن أن يحققوا نقاطا لصالحهم ضد نظام الحكم، ولكن انشغالهم باللغة وتوظيفها كسلاح أفقدهم هذه الميزة، فكل ما تمت تسميته بالفنكوش كان من الممكن إضعاف وزنه السياسي، لو تم تناوله بمنظور ترتيب الأولويات والاحتياجات الوطنية، وإدخال عامل الزمن فى تلك الأولويات والتركيز على الاحتياجات الملحة مثل الصحة والتعليمة.الخ، كل ذلك كان ممكنا أن يحقق نجاحا للمعارضة لو أنها تكلمت بلغة سياسية، وابتعدت عن اللغة الجوفاء. كذلك توسع استخدام البذاءة والسباب والشتائم فى العمل السياسي، من خلال التنابذ بالألقاب، والسخرية من الشخصيات والهيئات العامة، والشتائم التى كانت منذ وقت قريب تعبر عن انحطاط أخلاق ودناءة من يتفوه بها، كل ذلك صار وسيلة للمعارضة السياسية، والنيل من الخصوم، وكأن شتم الخصم السياسي، وسبه سوف يهزمه ويحقق النصر للبذيء الذى سبه وشتمه. ولكن التاريخ يعلمنا أن حقائق الواقع .
فليت الذين انشغلوا بتطوير أسلحة اللغة نزلوا الى الواقع الاجتماعى وتفاعلوا من الناس، حينها كان من الممكن أن يكون فى مصر أكثر من مرشح لرئاسة الجمهورية.