بقلم - نصر محمد عارف
الأمان والأمل هما روح المجتمعات، ومحرك الشعوب، والدافع للتنمية والنهوض، واقتحام الصعاب، هما الحافز الأساسى للعمل، ولبذل الجهد وتحمل الصعاب، ودونهما تخمد حركة الانسان، ويركد المجتمع، وتتباطأ، أو تتوقف الحياة، الشعور بالأمان فى الحاضر، والأمل فى المستقبل، مثل الماء والهواء للمجتمع، ضرورات لا يتحقق الوجود بغيرهما، لذلك تحرص الدول والمجتمعات على ضمان تحقيقهما، وتسن من التشريعات والقوانين ما يحافظ على الأمان والأمل، فلا اقتصاد دون استقرار الإحساس بالأمان، ولا تقدم دون طاقة نور من الأمل، وإذا فُقِد احدهما، أو كلاهما، ينهار الاقتصاد، وتخمد روح الحياة فى المجتمع، وتفشل الدولة.
منذ أكثر من ربع قرن سمعت كلمة Fearmonger ولم افهم معناها، وسألت من يعلمني، فحاول الشرح، ولم يستطع ان يأخذنى إلى عمق الكلمة، ودلالتها الحقيقية، ونظرا لاهتمامى المبكر بالمفاهيم، والألفاظ، وعشقى للغة؛ لم يشبعنى المعنى السطحى الذى سمعته، وجادلت كثيراً إلى ان ضرب لى من يحاورنى مثالا واقعيا لمن يطلق عليهم هذا اللفظ، وهنا عرفت المعنى الحقيقى للكلمة، وهو بياعين الخوف ليس فى محالهم، أو أسواقهم، أى أولئك الباعة الجائلين؛ الذين يطوفون الشوارع والحارات ينادون على بضاعتهم بكلمات منمقة، أو أهازيج وأشعار، ومواويل وأغان ترغِّب المشترى فى البضاعة، وتدفعه للشراء حتى وإن كان لا يريد، أو لا يحتاج.
بياعو الخوف ... تجار الشائعات، يملأون فضاء مصر، يطلون على أهلها من جميع النوافذ، يخرجون من جميع القنوات، ينادون طوال الليل والنهار على بضاعتهم بحرفية واقتدار، شطار جداً فى فنون التسويق، والإعلان والبيع، لو كانت بضاعتهم غير هذه البضاعة لكانت مصر أقوى من الصين واليابان، لهم حيل السحرة والبهلوانات ومكرهم، يشدونك إلى بضاعتهم سواء بالترغيب، أو بالاستفزاز، المهم سوف تشترى منهم فى النهاية، ولا تغادرهم دون أن تفعل، يبيعون كل أنواع ومستويات الخوف، يحولون أى مشكلة صغيرة وعابرة إلى أزمة عميقة، وعامة وطاحنة، المهم انهم يجدون ما يبيعونه كل يوم، تجدهم يهللون ويفرحون فى المصائب، هم مثل الحانوتية الذين تبهجهم أخبار الموت لأنها مصدر رزقهم، وبياعو الخوف كذلك يفرحون بالأزمات والمصائب، والمشكلات لأنها مصدر وجودهم، فمعها تسخن الحلقة، وتزداد الإعلانات، ويرتفع دخل القناة الفضائية، ومن ثم يرتفع وزن البياع أو المذيع.
تُصنع الشائعة فى دوائر تنظيم الإخوان الفاشل فى تركيا أو تابعتها الصغيرة قطر، ثم يتم تداولها على وسائل التواصل الاجتماعي، وبعدها يلتقطها مذيعو الفضائيات الخاصة فى مصر، بعضهم يتناولها بحياد متسائلاً هل هذا الأمر صحيح أم لا؟ وهو لا يهمه أن يكون صحيحاً أو غير صحيح؛ الأهم أن يملأ فراغ البرنامج، ويجذب المشاهدين، ويرفع مدخول الإعلانات، حتى وإن هدد أمن المجتمع، وأصاب مؤسسات الدولة بضرر شديد...والبعض الآخر يظن أنه ينفى الشائعة ويفندها ويكذبها، ولكن نظراً لضعف حجته، وركاكة لغته، وتهافت منطقه، وكم الصراخ والبذاءات الذى يطلقه؛ تكون نتيجة عمله تأكيد الشائعة، أو ترك المصرى البسيط حائرا، لا يعرف الحق من الضلال.
هذه لحظة تحتاج فيها مصر الى الأمل، يتعطش فيها الإنسان المصرى إلى بارقة أمل بأن غداً أفضل من اليوم، وأن الازمات التى مرت عليه فى طريقها إلى الانتهاء، وأن مشكلات اليوم سوف تنتهى فى الغد، وأن بكره أحلى من النهارده، ومش مهم بكره ييجي، المهم أن يكون هناك أمل يحقق السعادة، وينزع الهم من القلب، وكفاه غما على ما فات، فلا ينبغى أن يجتمع معه همٌ بما هو آت، المصرى بسيط، يجذبه الأمل فى المستقبل؛ رغم صعوبة الواقع، أليس هو الذى كان يضع كل مدخراته، وأفضل ما لديه فى قبره، انتظارا للحياة الأخري، وعودة الروح إلى الجسد المحنط فى عالم الخلود؟ وأليس هو الذى يترك الآن كل ما جمع فى حياته لأولاده، وهم خلوده، وحياته الأخري؟ المصرى متعلق بطبيعته منذ الفراعنة بالمستقبل، يسعد فى لحظته الحاضرة، إذا كان المستقبل مشرقاً فى عينه، وتصبح الحياة سوداء حالكة إذا فقد الأمل فى بكره، بغض النظر عن واقعه.
هذا المصرى البسيط تسلطت عليه أجهزة إعلام خارجية وداخلية، لا هم لها إلا تنكيد حياته، وإغراقه بكل ما هو متاح من المشكلات والهموم، وتضخيم تلك المشكلات، والنفخ فيها حتى تصير جبلاً لا أمل فى زحزحته، وما إن تظهر أزمة، ولو طارئة، إلا ويجعل منها إعلام البوم والغربان كارثة أكثر بشاعة من زلزال مدمر، أو طاعونا مهلكا، رغم أن الأمر ليس كذلك، وإذا لم تكن هناك مشكلات تكفى لملء مساحة البرامج الحوارية، ونشرات الأخبار، فتشوا فى الحوادث، والجنايات، وبحثوا على أكثرها بشاعة، ونشروه، أو بحثوا عن الشائعات التى يطلقها تنظيم الإخوان الفاشل وتتبعوها، المهم أن يغرقوا المصرى البسيط فى حالة سوداوية، تزيد واقعه بشاعة.
حرب الشائعات من أخطر الحروب التى تعيشها مصر، فجهاز الدولة أصبح مشغولاً كل يوم بنفى الشائعات التى تتم صناعتها بحرفية شديدة لهدم ثقة المواطن فى الدولة، والقضاء على الأمل فى المستقبل؛ فلابد من خطة ثقافية وإعلامية شاملة لمواجهة هذه الحالة الخطيرة.
نقلا عن الاهرام القاهرية
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع