بقلم - نصر محمد عارف
عرفت النخبة القاهرية والطبقة الأرستقراطية من ملاك الأراضى فى الفترة من 1923 الى 1952 ثقافة سياسية كان مفهوم الحزب من أهم مقوماتها، فقد أدرك الجميع ــ فى ذلك الوقت- أن الأحزاب هى الفاعل السياسى الأساسى سواء على مستوى المشروع الوطنى المتعلق بالتحرر والاستقلال، أو على مستوى عملية إدارة الدولة ومؤسساتها، بل إن تلك الفترة عانت فائضا فى الحزبية, أصابها بحالة من عدم الاستقرار الحكومي, نظرا لتعدد الانتخابات، وتقلب التحالفات الحزبية مما أدى إلى أن بعض الحكومات كانت تستمر لأيام معدودة، ويتم إسقاطها بفعل سياسى حزبى داخل البرلمان.
ومنذ1952 تحولت الثقافة السياسية إلى حالة التعبئة الجماهيرية وليس التنافس الحزبى، وإلى التنظيم السياسى الواحد الذى يتماهى مع الحكومة والدولة، وليس التعدد الحزبى المنافس للحكومة، والذى يسعى لأن يحل محلها، ثم جاءت مرحلة التعددية المقيدة بعد 1974 ومنها دخلت مصر فى عصر الأحزاب الافتراضية أو الورقية أو الكرتونية أو المستأنسة، ولم تتغير الثقافة السياسية بصورة تسمح أن يستقر فيها مفهوم الحزب بمعناه السياسى المتعارف عليه فى مختلف أنحاء العالم، وأصبحنا نعيش حالة شاملة من الخداع البصرى، والتضليل المعلوماتى، وتزييف الوعى، حيث تفقد الألفاظ دلالاتها، وتنفك الصلة ما بين المفاهيم والحقائق المعبرة عنها، وتصبح الأسماء لا تعنى الظواهر التى تعبر عنها، بل قد تكون الظاهرة على العكس تماما من المفهوم الذى يطلق عليها.
وقد كان يظن البعض أن المجتمع المصرى بعد 25 يناير 2011 سوف يفرز ظاهرة حزبية تتناسب من عمق التغيير وأطروحاته التحررية. لكن للأسف كانت الثقافة السياسية أقوى من كل أطروحات الجيل الجديد, ومن ثم تمخض التغيير عن ظاهرة حزبية هى أكثر بعدا عن مفاهيم الأحزاب المتعارف عليها عالميا، واستطاعت الثقافة السياسية التى ترسخت فى نصف القرن السابق أن تفسد كل مفاهيم الثورة والتغيير، وأن تبتلعها وتعيد إنتاجها ضمن منظومتها القيمية المتوارثة من عصر الحزب الواحد والتعددية الحزبية المقيدة والأحزاب الورقية، وأصبحنا أمام حقائق وظواهر متعددة للحزب ليس من بينها الحزب السياسى المتعارف عليه فى عالم اليوم.
فالحزب قد يعنى النخبة لأن الانتماء للحزب يعنى تلقائيا التحاق الشخص بشريحة اجتماعية نافذة سياسيا؛ قادرة على التواصل المباشر مع الدولة وأجهزتها، وفى الوقت نفسه قادرة على تحقيق أنواع مختلفة من المصالح من خلال علاقاتها الشخصية ونفوذها الحزبى، خصوصا أن المحسوبية والشللية، والعلاقات الشخصية هى عنوان اللعبة السياسية والإدارية المصرية. والحزب قد يكون هو الفرد أو الشخص الذى أسسه ويقوده، وينطبق هذا المعنى على جميع الأحزاب المصرية دون استثناء فالحزب ملكية خاصة لرئيسه أو مؤسسه؛ الذى لا يقبل بأى حال من الأحوال الفصل بين ذاته وبين دوره، فهو الحزب والحزب هو، بل إن التصويت فى الانتخابات لأحزاب معينة لا يتم طبقا لبرامج هذه الأحزاب وأهدافها، وإنما عادة يتم طبقا للأوزان النسبية لقياداتها، وكوادرها والأشخاص المرشحين عنها، ولعل دراسة السير الشخصية لقادة الأحزاب الكبرى أو القزمية يبين إلى أى حد هناك تماه للحزب فى الشخص، وإلى أى حد هناك تشخيص للعمل الحزبى فى مختلف علاقاته، سواء مع الدولة أو مع الأجهزة الإدارية أو مع الشعب. والحزب قد يكون قبيلة دينية أو جهوية, سواء فى علاقاته الداخلية أو الخارجية مع الدولة والمجتمع، فتكوين الأحزاب منذ نشأتها يستبطن مفهوم القبيلة وقيمها، بل إننا قد لا نبالغ إذا قلنا إن الأحزاب المصرية ما هى إلا قبائل عصرية، أو صورة عصرية للقبيلة تحمل رموزها وقيمها وطريقة عملها، فقيادات الأحزاب لم يتم انتخابها ولا يمكن تغييرها، وأى رفض لها أو نقد أو دعوة لتغييرها يتم النظر إليه على أنه خروج عن الأعراف الحزبية/القبلية. والكيفية التى يتم بها اتخاذ القرار داخل الأحزاب هى الصورة القبلية نفسها من احترام للأوزان النسبية للأشخاص، واحترام للأكبر سنا، والأقدم فى الحزب بغض النظر عن الفعالية، والدور والقدرة على إفادة الحزب، كذلك فإن العلاقات بين الأحزاب تستبطن العلاقات القبلية التى تقوم على أولوية الروابط الشخصية بين القادة على العلاقات السياسية بين الأحزاب، وعلى أولوية التلاقى الشخصى على الاتفاق فى الأهداف والسياسات، وعلى أولوية المصالح الحالية على الخطط الإستراتيجية. والحزب قد يكون جماعة ضغط، فطموح أكثر الأحزاب السياسية المصرية هو لعب دور مؤثر فى النظام السياسى المصرى مثل دور جماعات الضغط، وذلك لأن الوصول إلى السلطة من خلال الانتخابات أمر أكثر من مستحيل، والحزب قد لا يكون سوى صحيفة.
تلك هى الصور الحقيقية لوجود الأحزاب السياسية فى مصر، فعلى الرغم من أنها جميعا تحمل فى اسمها مفهوم الحزب، فإن حقيقتها وجوهر وجودها لا يتجاوز واحدا أو أكثر من هذه الصور التى أشرنا إليها، كلها عبارة عن تجمعات لا يملك أى منها الوجود الاجتماعى، أو الشرعية السياسية التى تمكنه من الوصول إلى السلطة وقيادة الدولة، حتى تلك الأحزاب التى تعبر عن جماعات دينية تستمد قوتها من كونها حركة دينية تبتز عواطف الناس، وتسرق إرادتهم بشعارات دينية لا علاقة لها بالعمل الحزبى السياسى. مصر فى حاجة إلى تفكيك المنظومة الحزبية الحالية كاملة، وإعادة بناء نظام حزبى جديد، لأنه هو الضمانة الوحيدة للتحول الديمقراطى المؤسسى.
نقلا عن الاهرام القاهرية
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع